تحليلات واراء

السلطة الفلسطينية: شريك في تقويض القضية وسقفها الوطني

في خضم المجازر اليومية التي يتعرّض لها الفلسطينيون في قطاع غزّة، يتجلّى مأزق القضية والحركة السياسية الفلسطينية بأبشع صوره: غياب قيادة موحّدة، وشلل تام في مؤسّسات القرار، وتآكل غير مسبوق في دور منظمة التحرير الفلسطينية، التي كانت يومًا الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني.

غير أن الأخطر من هذا كلّه، هو الدور السلبي والمتواطئ للسلطة الفلسطينية، التي تحوّلت من كيان انتقالي مؤقت إلى بنية سلطوية دائمة تشكّل أحد أبرز أدوات تهميش المشروع الوطني.

لقد كانت منظمة التحرير، في ذروة عطائها، إطارًا وطنيًا جامعًا حرّك الفلسطينيين في كل مكان، وحوّل قضيتهم من مأساة إنسانية إلى قضية تحرّر وطني.

أمّا اليوم، فقد تحوّلت المنظمة إلى ظل هزيل للسلطة، تُستدعى عند الحاجة لتوفير غطاء سياسي لقرارات لا تعبّر عن إرادة الشعب، بل عن مصالح فئة صغيرة تمسّكت بالسلطة على حساب الدم الفلسطيني والمصلحة الوطنية العليا.

وحدانية تمثيل منظمة التحرير، التي كُرّست في لحظة تاريخية مفصلية، تمّ تقويضها تدريجيًا عبر مسارين متوازيين: الأوّل هو التفرّد السياسي وهيمنة حركة فتح داخل مؤسّسات المنظمة، حتى أصبحت قراراتها صدى لرغبات مركز القرار في رام الله.

والثاني هو تعمّد تغييب المنظمة عن كل المحافل الإقليمية والدولية التي تناقش مستقبل القضية الفلسطينية، ما سمح لقوى أخرى بملء الفراغ، وأضعف قدرة الفلسطينيين على الدفاع عن حقوقهم التاريخية.

من التنسيق الأمني إلى خيانة القضية

منذ سنوات، تعتمد القيادة الرسمية استراتيجية التفاوض والبقاء، وهي استراتيجية لم تثمر سوى تكريس الاحتلال، وتبديد ما تبقّى من أوراق القوّة الفلسطينية.

وحتى بعد أن أعلن الاحتلال نفسه انتهاء اتفاق أوسلو عمليًا من طرف واحد، لم تغيّر السلطة الفلسطينية استراتيجيتها، بل تمسّكت بمكتسباتها الضيّقة، مفضّلة الحفاظ على امتيازات محدودة على الدخول في مواجهة سياسية مفتوحة تعيد ترتيب الأولويات.

وفي خضم مجزرة الإبادة الجماعية التي تتواصل منذ أكثر من 600 يوم في غزّة، تقف السلطة الفلسطينية موقف المتفرّج، أو بالأحرى الشريك الصامت.

لم نشهد أي تحرّك جادّ من قبلها لوقف المجازر، أو حتى لتدويل الجرائم الإسرائيلية، بل العكس: استمرّت في التنسيق الأمني في الضفة الغربية، وواصلت اعتقال المقاومين، ومنعت أي حراك شعبي قد يحرج الاحتلال أو يعرّي تواطؤها.

وهكذا، في لحظة تاريخية يفترض أن تكون نقطة وحدة وطنية، أدارت السلطة ظهرها لغزة، وتواطأت مع الاحتلال ضمنيًا، أملاً في انهيار المقاومة أو إخضاعها، غير مدركة أن هذا الانهيار سيكون بداية النهاية لكل ما تبقّى من شرعية فلسطينية، بما فيها شرعية السلطة ذاتها.

السلطة… مشروع تصفوي مغلّف بالدبلوماسية

من الواضح اليوم أن السلطة لم تعد جزءًا من مشروع تحرّر، بل باتت جزءًا من مشروع تصفوي يستهدف تصفية الحقوق الأساسية للفلسطينيين، وعلى رأسها حق العودة.

يتجلّى ذلك في الأداء السياسي الذي يُصرّ على المفاوضات العقيمة، ويتجاهل حقائق الأرض، وفي الأداء الإعلامي الذي يُمعن في التحريض على المقاومة، وفي الهيكلية المؤسّسية التي باتت عاجزة عن إنتاج أي مبادرة وطنية جامعة.

لقد تحوّلت السلطة إلى جهاز بيروقراطي ضخم، يتغذّى من المساعدات الدولية، ويعمل وفق شروط المانحين، ويخضع لقيود الاحتلال. أما منظمة التحرير، التي كان يفترض أن تكون مظلّة جامعة، فقد باتت تُستخدم كأداة لتبرير قرارات ضيّقة، ووسيلة لتكريس الانقسام بدلًا من تجاوزه.

المجلس المركزي، الذي يفترض أن يكون الجهة الأعلى بين دورات المجلس الوطني، تحوّل إلى غرفة مغلقة لا يجتمع إلا عند الضرورة، ووفق أجندة السلطة.

وقد تمّ توسيعه بطريقة عبثية لتشمل أكثر من 200 عضو، معظمهم من الموالين، ما أجهض أي إمكانية لإعادة إحياء المنظمة أو إعادة بناء مؤسّساتها بشكل ديمقراطي وتمثيلي.

ويؤكد مراقبون أن خطورة اللحظة الراهنة تكمن في تحوّل مأزق السلطة من عجز سياسي إلى تواطؤ بنيوي مع مخطّطات تصفية القضية، في ظل صمت مريب وتخلٍّ مقصود عن غزّة، وتحريض مستمر على كل من يرفع صوته بالمقاومة أو النقد.

البديل… مشروع وطني جديد يتجاوز السلطة

لا يمكن الخروج من هذا المأزق إلا عبر مراجعة وطنية شاملة تعيد الاعتبار لفكرة التحرّر الوطني، وتنهي حقبة السلطة بصيغتها الراهنة، وتعيد بناء منظمة التحرير وفق معايير ديمقراطية جامعة، لتكون إطارًا فعليًا لجميع الفلسطينيين، داخل الأرض المحتلة وفي الشتات.

وبحسب المراقبين فإنه لا بدّ من بناء تيار وطني شامل يتجاوز الثنائية الفصائلية، ويضع حدًا لحالة التكلّس والشلل التي تعيشها المؤسّسات الرسمية. هذا التيار لا بد أن يستند إلى رؤية واضحة: التحرّر أولًا، ثم البناء، مع الاعتراف بتعقيدات الواقع، ولكن من دون الوقوع في فخ الواقعية المُفرطة التي تُستخدم ذريعة للاستسلام.

الوقت من دم، والتاريخ لا يرحم. والشعب الفلسطيني، رغم المجازر، لم يُهزم، لكنه بحاجة إلى قيادة جديدة، نظيفة وموحّدة، تُمثّله بحق، وتحمل قضيته إلى العالم، لا إلى غرف المفاوضات المعقّمة التي لا تنتج سوى مزيد من التنازلات.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى