تحليلات واراء

هل موّلت دول الخليج حرب الإبادة في غزة؟

مع استمرار العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة منذ أكتوبر 2023، تزداد الأسئلة إلحاحاً حول مصادر تمويل هذه الحرب التي تجاوزت في وحشيتها كل السوابق ومدى تورط دول الخليج وإن كان شكل غير مباشر في توفير هذا التمويل.

إذ أن الدمار الهائل الذي طال البنية التحتية، والمجازر الجماعية، والتشريد القسري لمئات الآلاف، لم يكن ممكناً دون موارد مالية ضخمة موجهة بعناية لخدمة آلة القتل الإسرائيلية.

وفي خضم هذا المشهد، تبرز حقيقة صادمة: أن التكلفة المباشرة لحرب الإبادة في غزة، والتي تُقدّر بـ55 مليار دولار حتى الآن، لا تمثل سوى نسبة يسيرة من الأموال التي تدفقت من الخليج العربي إلى الولايات المتحدة ودولة الاحتلال الإسرائيلي في السنوات الأخيرة.

لتقريب الصورة: يبلغ إجمالي الناتج القومي للسعودية نحو 1.08 تريليون دولار، في حين يصل الناتج القومي للإمارات إلى 527 مليار دولار، ولقطر 216 مليار دولار، أي أن الناتج القومي المجمع لهذه الدول الثلاث لا يتجاوز 1.8 تريليون دولار.

في المقابل، عاد الرئيس الأميركي دونالد ترمب من جولاته الخليجية (خاصة خلال قمم الرياض وصفقات التسلح الكبرى) بما قيمته 4 تريليونات دولار، أي ما يفوق ضعفي الناتج القومي لهذه الدول مجتمعة.

هذه الأرقام ليست مجرد مقارنات اقتصادية. إنها تكشف عن اختلال استراتيجي مريع: بينما تنفق دول الخليج مئات المليارات على صفقات تسلح فلكية، وعلى مشاريع علاقات عامة وتحسين الصورة في الغرب، تجد دولة الاحتلال نفسها في موقع المستفيد الأكبر من هذا الانفتاح المالي، سواء بشكل مباشر من خلال التطبيع والتعاون الأمني، أو بشكل غير مباشر عبر ضخ الأموال في الاقتصاد الأميركي، الذي يُعد المموّل والمزوّد الرئيسي للسلاح والذخيرة لإسرائيل.

تمويل الحرب عبر واشنطن

من المعروف أن معظم الدعم العسكري الأميركي لإسرائيل لا يُقدم نقداً مباشراً، بل على شكل مساعدات عينية وسلاح وتكنولوجيا تُمول من خزينة البنتاغون أو من الاعتمادات المخصصة للحلفاء. وهنا تأتي أهمية الأموال الخليجية.

فعندما تضخ السعودية والإمارات وقطر مليارات الدولارات في الاقتصاد الأميركي، عبر شراء السندات، والاستثمار في البنية التحتية، وصفقات التسلح غير الضرورية، فإنها عملياً تساهم في توفير هامش مالي أوسع للولايات المتحدة لتعزيز دعمها العسكري غير المشروط لإسرائيل، دون أي كلفة داخلية حقيقية على الإدارة الأميركية.

بحسبة بسيطة، فإن 55 مليار دولار تمثل فقط 1.3% من الأموال التي عاد بها ترمب من الخليج. هذا يعني أن تكلفة حرب الإبادة في غزة لا تمثل سوى هامش ضئيل من فائض الأموال الخليجية في الولايات المتحدة، مما يجعل التمويل غير المباشر لهذا العدوان ليس مجرد احتمال، بل حقيقة قائمة على أرقام لا يمكن إنكارها.

التطبيع: المال في خدمة الإبادة

لكن التمويل لا يتوقف عند هذا الحد، فالإمارات – على سبيل المثال – كانت من أوائل المبادرين لتطبيع العلاقات مع دولة الاحتلال منذ اتفاقيات “أبراهام” في 2020، والتي فتحت أبواب التعاون الاقتصادي والأمني بين الجانبين على مصراعيه.

خلال السنوات الثلاث الماضية، ضخّت أبوظبي استثمارات ضخمة في مشاريع إسرائيلية، من التكنولوجيا الزراعية إلى الأمن السيبراني، بينما وقّعت اتفاقيات لتبادل المعلومات الأمنية وتحديث البنى التحتية الدفاعية.

هذا السياق يجعل من الصعب الفصل بين المال الخليجي والسياسات الحربية الإسرائيلية، خاصة مع تقارير عديدة أشارت إلى تعاون وثيق بين شركات أمنية إسرائيلية وإماراتية، وتبادل خبرات في مواجهة “التمردات الداخلية”، وهو ما ينعكس الآن في تكتيكات القمع والقتل الجماعي التي تتبناها إسرائيل في غزة.

نفاق مزدوج: تبرعات رمزية وصمت سياسي

في الوقت الذي يعاني فيه أهل غزة من الجوع والتشريد، لم تقدّم الدول الخليجية سوى تبرعات رمزية لا تتناسب إطلاقاً مع إمكانياتها الاقتصادية.

بل الأسوأ من ذلك، أن بعض العواصم الخليجية مارست ضغوطاً على منظمات إغاثية دولية لتخفيف اللهجة في انتقاد دولة الاحتلال، كما شاركت في قمم عربية جوفاء اكتفت بإصدار بيانات إدانة خالية من أي التزامات ملموسة.

الصمت الخليجي، بل والتواطؤ في بعض الأحيان، لا يمكن قراءته خارج سياق التمويل.

فالأموال التي تدفقت نحو الغرب ودولة الاحتلال لم تكن عشوائية، بل جزء من تفاهمات سياسية عميقة تتعلق بتقاسم النفوذ، وضمان بقاء الأنظمة، وتصفية القضية الفلسطينية عبر صفقات اقتصادية وصفها كوشنر بأنها “الشرق الأوسط الجديد”.

شراكة في الجريمة

حين تُموّل دولة ما اقتصاداً أجنبياً يسهم بشكل مباشر في إبادة شعب، فهي ليست مجرد “طرف غير مباشر”، بل شريك فعلي في الجريمة.

وحين تضخ السعودية والإمارات مئات المليارات في اقتصاد الولايات المتحدة، وتطبّع مع دولة الاحتلال، وتشارك في مشاريع أمنية مشتركة، فإنها تموّل – فعلياً – آلة الحرب التي تحرق غزة اليوم.

المال الخليجي لم يذهب إلى واشنطن فقط لشراء الحماية أو النفوذ، بل استُخدم، ولو بشكل غير مباشر، لتوفير غطاء مالي وسياسي لحرب لم يشهد لها التاريخ الحديث مثيلاً في وحشيتها.

ومن هنا، فإن السؤال لم يعد: هل موّلت دول الخليج حرب الإبادة في غزة؟ بل: إلى أي مدى شاركت، عن وعي أو تواطؤ، في تمكين دولة الاحتلال من تنفيذ هذه الإبادة سواء بالصمت والتواطؤ أو بالتمويل المالي الضخم؟.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى