تحليلات واراء

حقائق تفضح عمان.. الأردن اعتمد سياسة مزدوجة خلال الحرب على غزة

مع استمرار حرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزة منذ 7 أكتوبر 2023، تميّز الموقف الأردني باعتماد سياسة مزدوجة لافتة، مزجت بين إدانة شكلية للجرائم الإسرائيلية في العلن، وبين استمرار التنسيق الأمني والسياسي مع دولة الاحتلال خلف الكواليس.

في الوقت ذاته، شدد الأردن قبضته الداخلية على أي حراك شعبي داعم للمقاومة الفلسطينية أو منتقد للعلاقات مع تل أبيب، ما جعل موقفه محط تساؤلات وانتقادات واسعة في الداخل والخارج.

الإدانة العلنية لإسرائيل

منذ الأيام الأولى للعدوان الإسرائيلي، عبّر الأردن على لسان ملكه عبد الله الثاني ومسؤوليه عن رفضه المطلق لاستهداف المدنيين في قطاع غزة، وطالب إسرائيل مراراً بوقف عملياتها العسكرية، وأدان ما وصفه بـ«جرائم الحرب» بحق الشعب الفلسطيني.

كما صعّد الأردن لهجته دبلوماسياً في بعض المحافل الدولية، محذراً من كارثة إنسانية وشيكة في القطاع ومطالباً بإدخال مساعدات إنسانية عاجلة دون عوائق.

وشكّل الخطاب الأردني العلني متنفساً للرأي العام المحلي والعربي، الذي يرى في المملكة تاريخياً جزءاً من الحاضنة العربية للقضية الفلسطينية، بل وشريكاً مباشراً بسبب خصوصية وضعه الجغرافي والديموغرافي، حيث يشكل الفلسطينيون جزءاً كبيراً من سكانه.

لكن على الرغم من الخطاب المتشدد أحياناً، لم تترجم هذه الإدانة إلى مواقف سياسية أو دبلوماسية أكثر جدية، مثل تجميد أو خفض مستوى العلاقات مع إسرائيل، أو حتى التلويح بإلغاء اتفاقية وادي عربة الموقعة عام 1994، وهو ما اعتبره مراقبون دليلاً على ازدواجية الموقف الأردني.

قنوات الاتصال السرية

في المقابل، حافظ الأردن على قنوات اتصال مفتوحة مع إسرائيل طوال فترة الحرب، وفق تقارير إسرائيلية وغربية متطابقة.

فقد كشفت وسائل إعلام عبرية عن اجتماعات سرية عقدت بين مسؤولين أمنيين إسرائيليين وأردنيين للتنسيق حول قضايا أمنية وحدودية، وسط القلق المشترك من امتداد الحرب إلى الضفة الغربية أو الحدود الأردنية.

ولم تُخفِ مصادر إسرائيلية تقديرها العالي للتنسيق الأمني مع عمّان، معتبرة أن الأردن كان «شريكاً هادئاً وموثوقاً» خلال الحرب. وتحدثت بعض التقارير عن أن الأردن ساهم في تبادل معلومات استخباراتية لمنع تهريب أسلحة إلى غزة أو تسلل عناصر محسوبة على حركات المقاومة الفلسطينية عبر أراضيه.

كما شكّل الأردن، بحسب تقارير أخرى، حلقة وصل غير مباشرة في بعض الوساطات المتعلقة بتبادل أسرى أو إيصال مساعدات إنسانية محدودة تحت رقابة مشددة، في إطار مساعيه للحفاظ على صورة «الوسيط المعتدل» إقليمياً ودولياً.

عامل صدّ للمهددات الجوية

في تطور أكثر حساسية، برز الدور الأردني العسكري خلال الحرب، إذ كشف الجيش الأردني عن إسقاطه عشرات الطائرات المسيّرة القادمة من اتجاه الأراضي العراقية أو السورية، في إطار ما وصفه بـ«حماية الأمن الوطني الأردني».

لكن مصادر مطلعة أشارت إلى أن جزءاً من هذه العمليات كان يستهدف مسيّرات ربما كانت في طريقها إلى دولة الاحتلال أو تمر عبر المجال الجوي الأردني.

وبينما أعلن الأردن رسمياً أن عملياته دفاعية بحتة لحماية أراضيه، رأت أوساط عربية وفلسطينية أن الأردن تحوّل عملياً إلى خط دفاع جوي غير معلن لإسرائيل، عبر التصدي لأي تهديدات جوية قد تستهدفها من الشرق. واعتبر كثيرون أن ذلك يؤكد عمق التنسيق الأمني والعسكري بين الجانبين، حتى في أوج الحرب على غزة.

القمع الداخلي

في الداخل، اتسم الموقف الأردني تجاه أي تحرك شعبي مساند لغزة أو معادٍ لإسرائيل بالشدة، إذ شهدت المملكة حملات اعتقال طالت نشطاء سياسيين وحقوقيين شاركوا في مسيرات أو أطلقوا دعوات على وسائل التواصل الاجتماعي للتظاهر أو التبرع للمقاومة.

ورغم سماح السلطات ببعض المسيرات في بداية الحرب، إلا أنها سرعان ما فرضت قيوداً صارمة على التظاهرات، خصوصاً تلك التي حاولت الاقتراب من منطقة الحدود أو السفارة الإسرائيلية في عمّان. كما أغلقت السلطات طرقاً مؤدية إلى مواقع التظاهر، ونشرت أعداداً كبيرة من قوات الأمن والدرك لمنع أي تصعيد.

ووفق تقارير حقوقية، تعرض معتقلون بسبب نشاطهم التضامني مع غزة للاستدعاءات الأمنية المتكررة، وأحياناً للاحتجاز لفترات قصيرة دون توجيه تهم محددة، وهو ما اعتبرته منظمات حقوقية «قمعاً ممنهجاً» لحرية التعبير والتجمع السلمي.

ويرى مراقبون أن الحكومة الأردنية تخشى أن يتحول أي تعاطف شعبي واسع مع غزة إلى احتجاجات سياسية أوسع ضد سياساتها الداخلية أو ضد معاهدة السلام مع إسرائيل، خاصة في ظل تدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في البلاد.

المصالح فوق المبادئ

يكشف المشهد الأردني في الحرب على غزة عن معادلة صعبة يواجهها النظام في عمّان: التوفيق بين خطاب داعم لفلسطين يستجيب لمشاعر شعبية قوية، وبين اعتبارات أمنية وسياسية تربطه بتحالفات إقليمية ودولية لا تسمح بمواجهة مباشرة مع دولة الاحتلال أو الولايات المتحدة.

وفي حين يروج النظام الأردني إعلاميا لرفضه انهيار الوضع في غزة خشية تداعياته الأمنية والإنسانية، فإنه في الوقت ذاته حريص على عدم استفزاز دولة الاحتلال أو كسر الخطوط الحمراء الأميركية. وهو ما يجعله يكتفي بالإدانة الخطابية من دون مواقف أكثر جرأة.

وفي نهاية المطاف، يظل موقف الأردن إزاء غزة عنواناً للازدواجية، إذ يدين الاحتلال لفظياً، بينما يواصل علاقاته الأمنية والسياسية مع دولة الاحتلال بلا تغيير جوهري، ويقمع في الوقت نفسه أي صوت داخلي يريد الذهاب أبعد من الشعارات.

وهي معادلة بحسب مراقبين قد تمنح النظام الأردني بعض الاستقرار اللحظي، لكنها تضع صورته التاريخية كحامٍ للقضية الفلسطينية أمام اختبار صعب، لن يرحمه التاريخ أو الشعوب مع استمرار العدوان الإسرائيلي على غزة بلا موقف عربي صادق وفاعل.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى