لماذا تمنع السلطة أي حراك جماهيري في الضفة الغربية ضد إبادة غزة؟

منذ اندلاع حرب الإبادة الإسرائيلية ضد قطاع غزة في السابع من أكتوبر 2023، برز الموقف المشين للسلطة الفلسطينية في رام الله، والتي اختارت الوقوف على الجانب الآخر من الإرادة الشعبية الفلسطينية، ومنعت أي حراك جماهيري تضامني في الضفة الغربية، مستخدمة أدوات القمع والملاحقة لكل من يحاول تنظيم فعالية أو وقفة مناصرة لأهل غزة.
هذا المنع لا يمكن قراءته باعتباره إجراءً عابرًا أو مرتبطًا بمخاوف أمنية ظرفية، بل يكشف عن جوهر ثابت في أداء قيادة السلطة الفلسطينية، يتمثل في التمسك الصارم بالتنسيق الأمني مع الاحتلال الإسرائيلي، حتى في ذروة المجازر وسفك الدم الفلسطيني على يد آلة الحرب الإسرائيلية.
السلطة، التي لا تُخفي فخرها بالعلاقات “الأمنية” مع إسرائيل، ترفض بشدة أن تتحول الضفة الغربية إلى ساحة اشتباك شعبي أو ضغط جماهيري يمكن أن يربك الاحتلال، أو يُظهر وحدة الموقف الفلسطيني بين الضفة وغزة.
تكبيل الضفة وخنق الموقف الشعبي
خلال الأشهر الأولى من العدوان، خرجت بعض الوقفات الرمزية في عدد من مدن الضفة الغربية، لكنها جوبهت بسرعةٍ شديدة بالقمع والملاحقة والاعتقال.
إذ أن عشرات الناشطين تم استدعاؤهم أو احتجازهم فقط لمشاركتهم في مسيرات تندد بالإبادة في غزة. وتم منع مؤتمرات صحفية ووقفات طلابية وفعاليات نسائية بحجج واهية، في وقت كانت فيه شاشات العالم تنقل مشاهد الجثث تحت الأنقاض في مختلف أنحاء قطاع غزة.
تصرّ السلطة على خنق كل تعبير جماهيري يتعاطف مع المقاومة في غزة، وتُدير الضفة بعقلية أمنية ترى في كل حراك شعبي تهديدًا لسيطرتها ومصالحها مع الاحتلال، أكثر مما تراه فرصة لبناء وحدة وطنية في وجه الإبادة الجماعية. إنها سلطة تحكم بالقلق من الشارع، لا بثقة الشعب.
اصطفاف سياسي وأمني مع الاحتلال
الأدهى أن موقف السلطة لم يقتصر على الصمت أو القمع الداخلي، بل تطور إلى اصطفاف سياسي صريح إلى جانب الاحتلال ودول التطبيع.
فبينما كانت المقاومة تواجه أعنف الحملات العسكرية في غزة، كانت تصريحات مسؤولين فلسطينيين في رام الله – بما في ذلك الرئيس محمود عباس نفسه – تركّز على مهاجمة فصائل المقاومة وتحميلها مسؤولية ما يحدث، بل والدعوة لنزع سلاحها بعد الحرب.
هذا الاصطفاف لا يأتي من فراغ، بل من رؤية ثابتة لدى القيادة المتنفذة في السلطة ترى في فصائل المقاومة تهديدًا سياسيًا لمشروعها، وتحاول منذ سنوات أن تفرض سيطرتها على غزة بأي وسيلة، ولو على أنقاضها.
إنها انتهازية سياسية تتغذى على دماء الضحايا في محاولة لتأهيل نفسها للعودة إلى غزة على ظهر الدبابات الإسرائيلية أو برعاية أمريكية تحت مظلة “اليوم التالي”.
مناهضة المقاومة باسم “الشرعية”
في خطاباتها الرسمية، تصرّ السلطة على تقديم نفسها ممثلًا شرعيًا ووحيدًا للشعب الفلسطيني، لكنها في الواقع تناهض خيار المقاومة وتحرص على بقاء المشهد محكومًا بالاستسلام والمفاوضات العقيمة، حتى بعد أن تبيّن زيف هذه المسارات وفشلها الذريع في تحقيق أي من الحقوق الفلسطينية.
لقد تحولت السلطة إلى أداة وظيفية في يد الاحتلال، تلاحق المقاومين في الضفة، وتمنع أي مظاهرات تؤيد غزة، وتُفكك شبكات الإسناد الشعبي تحت ذريعة “عدم جر الضفة إلى الفوضى”، بينما الحقيقة أن الضفة لم تكن يومًا أكثر فوضى وأقل أمنًا مما هي عليه اليوم، بفعل تغوّل المستوطنين، وضعف مؤسسات السلطة، وتآكل الثقة الشعبية بها.
مشروع “اليوم التالي”: تسابق على أنقاض غزة
تشارك السلطة اليوم بشكل صريح في مشاريع إقليمية ودولية تُعرف بـ”اليوم التالي”، تهدف إلى إعادة هندسة المشهد في غزة بعد انتهاء العدوان، بطريقة تُقصي فصائل المقاومة وتُعيد فرض نموذج الحكم الأمني الذي تطبقه السلطة في الضفة الغربية.
وتستغل السلطة في هذا الإطار علاقاتها مع عواصم التطبيع العربي ومع الأوروبيين والأمريكيين، لتظهر كخيار “معتدل” و”مسؤول” يمكن دعمه لإدارة غزة بعد الحرب.
لكن هذه المساعي تُقابل برفض شعبي واسع، وتُعدّ خيانة سياسية للأرواح التي تُزهق يوميًا في غزة دفاعًا عن كرامة الفلسطينيين، ورفضًا للاحتلال. إن منع الحراك السلمي في الضفة ليس سوى وجه آخر لهذا المشروع، لأنه يقطع الطريق على أي صوت فلسطيني حر يمكن أن يُفسد ترتيبات ما بعد الحرب.
ويؤكد مراقبون أن موقف السلطة من حرب الإبادة في غزة يكشف عن أزمة أخلاقية ووطنية عميقة، حيث اختارت القيادة أن تصطف مع الاحتلال، وتمنع شعبها من التعبير عن غضبه، وتمارس القمع بدل التضامن، والانقسام بدل الوحدة.
وهي بذلك لا تكتفي بالتواطؤ، بل تتحول إلى طرف مباشر في الحرب على غزة – لا بقنابل الطائرات، بل بمنع الأصوات والرايات التي ترفض الاستسلام. وفي وقت تنادي فيه كل شعوب العالم بالحرية لغزة، تمنع السلطة أبناء شعبها من رفع العلم أو الهتاف للعدالة وذلك في وصمة ستبقى محفورة في الذاكرة الفلسطينية طويلاً.