تحليلات واراء

عباس بين “يا عالم احمونا” واشتراط نزع سلاح المقاومة

في لحظة درامية من مايو/أيار 2023، وقف محمود عباس أمام الأمم المتحدة يتوسل حماية شعبه من آلة الحرب الإسرائيلية قائلًا: “يا شعوب العالم، احمونا. ألسنا بشرًا؟ حتى الحيوانات تُحمى”.

لكن بعد أقل من عام، تحوّل هذا النداء الإنساني إلى تهديد مباشر ضد أبناء وطنه، حين وصف مقاومي غزة بـ”أبناء الكلاب”، وطالبهم بنزع سلاحهم وإطلاق سراح الأسرى الإسرائيليين، متناغمًا مع اشتراطات الاحتلال ودول التطبيع.

هذه ليست مجرد مواقف متناقضة من رئيس سلطة بلا سيادة، بل هي انعكاس دقيق لطبيعة السلطة الفلسطينية منذ نشأتها: بنية وظيفية تخدم أمن الاحتلال وتضبط نبض الشارع الفلسطيني تحت سقف أوسلو.

واليوم، تتكامل هذه الوظيفة مع خطط سعودية وإماراتية وأردنية ومصرية، كلها تشترط تفكيك المقاومة مقابل أي دور مستقبلي في إعادة إعمار غزة.

في شباط/فبراير الماضي، كشفت تقارير عن طرح السعودية خطة لنزع سلاح المقاومة، تلاها مقترح أردني لنفي 3000 مقاوم، ثم عرض مصري بوقف إطلاق نار مشروط بتجريد المقاومة. وحتى اللحظة، ترفض هذه الأنظمة أي إعمار أو دعم إنساني حقيقي ما لم تُهزم غزة.

هذا التناغم بين عباس ودول التطبيع، يعيد للأذهان محطات حاسمة من تاريخ الصراع الفلسطيني، حين أدّت خيانات وتسويات الأنظمة العربية إلى كوارث على القضية.

التاريخ خير شاهد

في عام 1948، اغتيل عبد القادر الحسيني في معركة القسطل بعد أن ناشد العرب دعمًا عسكريًا ولم يُلبّ. كتب في رسالته الأخيرة: “أحملكم المسؤولية بعد أن تركتم جنودي بلا عون ولا سلاح”.

بعد قتله، دُمّرت القسطل وسقطت القدس الغربية، في لحظة وصفها الإسرائيليون بـ”أكثر 24 ساعة كارثية في تاريخ فلسطين”.

ثم جاءت اتفاقية كامب ديفيد عام 1978، حين منح السادات الشرعية للاحتلال مقابل انسحاب رمزي من سيناء و1.5 مليار دولار سنويًا. كانت تلك أول صفعة رسمية توجهها دولة عربية للقضية، وكسرت المحرمات بفتح باب التطبيع.

وفي 1982، جاءت ثالثة الأثافي: مجزرة صبرا وشاتيلا. بعد ضغوط سعودية وأمريكية، خرج مقاتلو منظمة التحرير من بيروت، تاركين وراءهم مدنيين عُزّل تحت “حماية دولية”.

لكن هذه الحماية انهارت سريعًا، حين ذبحت ميليشيا الكتائب – تحت أعين الإسرائيليين – أكثر من 3500 مدني فلسطيني، بينهم نساء وأطفال، في واحدة من أبشع المجازر المعاصرة.

اليوم، يعود السيناريو نفسه: تهديدات، نزع سلاح، ووعود زائفة بالحماية وإعادة الإعمار. أما عباس، فبدلًا من حماية شعبه، ينخرط في حملة تحريض دولية ضد من يواجهون الاحتلال، متماهيًا مع الخطاب الإسرائيلي الذي يربط المقاومة بالإرهاب، متجاهلًا أن أي تحرر وطني دون مقاومة مسلحة في ظل احتلال عسكري مباشر هو وهم سياسي.

إن نزع السلاح يعني عمليًا تجريد الفلسطينيين من حق الدفاع عن النفس. إنه يشبه تمامًا ما حدث في صبرا وشاتيلا. وكما لم تُحمَ المخيمات آنذاك، لن تُحمى غزة اليوم إذا استسلمت.

مخططات تطويع غزة ليست نتيجة عجز عربي، بل نتاج تحالف وظيفي مع الصهيونية يهدف لإجهاض أي مشروع تحرري حقيقي.

الأنظمة المستبدة لا تخشى دولة الاحتلال، بل تخشى فكرة المقاومة بحد ذاتها، لأنها تفضح هشاشتها وتنسف شرعيتها. ولهذا، تسعى لتصفية المقاومة لا من باب الواقعية، بل من باب البقاء السلطوي.

الفرق الوحيد اليوم أن المقاومة في غزة – على عكس بيروت 1982 – ترفض الخروج أو نزع السلاح، رغم الجوع والنار والمجازر. ومع كل صاروخ يسقط على تل أبيب، تتهاوى روايات عباس ومن خلفه، وتثبت غزة أن الحرية لا تُمنح، بل تُنتزع.

إن خطاب “احمونا” الذي تبناه عباس لم يكن دعوة للتحرير، بل تسول لحماية وهمية في ظل بقاء الاحتلال. أما اشتراطه نزع السلاح، فليس سوى تكرار ركيك لصفحات سوداء من تاريخ عربي اختار الخنوع على حساب كرامة الأمة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى