“إسرائيل الكبرى”.. نتنياهو يعلن وينفذ والعرب بين الاستنكار والعجز

يجمع مراقبون على أن تصريحات رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الأخيرة عن “إسرائيل الكبرى” لم تكن زلة لسان، ولا مجرد خطاب دعائي لجمهوره اليميني، بل إعلان صريح عن مشروع استراتيجي ممتد، يجري تنفيذه على الأرض منذ سنوات، وتتكشف ملامحه الآن بلا مساحيق أو غطاء سياسي.
ففي مقابلة مع قناة i24، ظهر نتنياهو متباهياً بأنه في “مهمة تاريخية وروحانية” مرتبطة عاطفياً برؤية “إسرائيل الكبرى”، وأبدى موافقته الكاملة على خريطة “أرض الميعاد” التي تضم كامل فلسطين المحتلة، وأجزاء من الأردن، ولبنان، وسوريا، ومصر، والعراق، ممتدة من الفرات إلى النيل.
وهذه ليست المرة الأولى التي يكشف فيها قادة دولة الاحتلال أطماعهم التوسعية، لكنها المرة التي يجاهرون فيها بها وهم على أعتاب ضم الضفة الغربية، وتفريغ غزة من سكانها، والسيطرة على أراضٍ عربية جديدة، وسط حالة عربية رسمية عاجزة أو متواطئة.
استنكار عربي بلا مضمون
أصدرت المملكة العربية السعودية، والأردن، ومصر، ودول عربية أخرى، بيانات “إدانة شديدة” لتصريحات نتنياهو، لكن التجربة علمت الشعوب العربية أن هذه الإدانات لا تساوي شيئاً ما لم تُترجم إلى أفعال.
ويعلق الكاتب والباحث الفلسطيني أسامة أبو ارشيد بأن “من يقف حقاً ضد مشاريع التهجير والضم، يبدأ أولاً بتعزيز صمود الشعب الفلسطيني، لا بمطالبته بالاستسلام ونزع سلاحه، ولا بمحاصرته اقتصاديًا وسياسيًا”.
ويبرز أبو ارشيد أن الدول العربية شاركت بشكل مباشر أو غير مباشر في إضعاف غزة، وفي الضغط على المقاومة لتقديم تنازلات، مما جعلها جزءًا من المعادلة التي تسهّل تنفيذ مشروع “إسرائيل الكبرى”.
مشروع استراتيجي قديم بأدوات جديدة
فكرة “إسرائيل الكبرى” ليست وليدة نتنياهو؛ هي راسخة في الفكر الصهيوني منذ نشأة المشروع، كما أشار باحثون إلى أن الوثائق الإسرائيلية القديمة نصت على احتلال أراضٍ عربية “مكملة لأرض إسرائيل” لتعزيز موقعها الاستراتيجي والسياسي، وللسيطرة على طرق التجارة والممرات الحيوية، ومنع أي وحدة عربية.
الاختلاف اليوم هو السياق الإقليمي والدولي: تفكك النظام العربي، وموجة التطبيع التي أضفت شرعية على الاحتلال، انشغال العالم بحروب وصراعات أخرى.
هذا السياق أعطى نتنياهو جرأة استثنائية ليعلن ما كان يقال سابقاً في الغرف المغلقة.
التنفيذ على الأرض
ما يميز مرحلة نتنياهو الحالية أنه لا يكتفي بالإعلان، بل ينفذ:
ضم فعلي للضفة الغربية عبر التوسع الاستيطاني والقوانين الإسرائيلية.
تفريغ قطاع غزة بسياسات الحصار والدمار الشامل، مع مخططات لترحيل السكان.
التحرش بلبنان وسوريا، ورفض الانسحاب من مناطق احتلت العام الماضي في الجنوب اللبناني.
الدفع نحو تقسيم سوريا إلى كيانات طائفية وعرقية.
استهداف الأردن ومصر سياسيًا من خلال تصريحات وخرائط تضم أراضيهما.
هذه التحركات تضع المنطقة أمام إعادة تشكيل جغرافية بالقوة، لا عبر المفاوضات أو التسويات.
الفجوة بين الشعارات والفعل
يبرز الكاتب والمحلل من الأردن معن البياري، أن الأنظمة العربية الموقعة على اتفاقات سلام مع دولة الاحتلال مثل مصر والأردن، كان يمكنها استخدام هذه الاتفاقيات كورقة ضغط، لكن التجربة أثبتت أن السلام تحول إلى قيد سياسي يمنع أي رد قوي.
مثلاً: القاهرة اكتفت برفض فكرة تهجير سكان غزة إلى سيناء، لكنها لم تلوّح بتعليق معاهدة كامب ديفيد.
عمّان، رغم تعرضها لإهانات سياسية متكررة، لم تجمّد اتفاقية وادي عربة.
ويشير البياري، إلى أن التاريخ القريب يقدم نموذجًا مختلفًا: الملك حسين عام 1997 هدد علنًا بتجميد المعاهدة إذا استشهد خالد مشعل بعد محاولة اغتياله في عمّان، ما أجبر دولة الاحتلال على التراجع. اليوم، هذا النوع من المواقف الحاسمة غائب تمامًا.
ويشدد على أن ردع حكومة نتنياهو الفاشية لا يكون بالبيانات، بل بخطوات عملية، منها: تعليق أو تجميد معاهدات السلام كإجراء سياسي ورسالة ردع، ووقف التطبيع وقطع العلاقات الاقتصادية والعسكرية، وإطلاق دعم مادي وسياسي حقيقي للمقاومة الفلسطينية بدل الضغط عليها لنزع سلاحها.
هذه الخطوات لن تعني إعلان الحرب، لكنها ستعيد صياغة ميزان الردع وتكسر شعور دولة الاحتلال بأنها تستطيع التمدد بلا ثمن.
خطر على الأنظمة قبل الشعوب
مشروع “إسرائيل الكبرى” ليس تهديدًا لفلسطين وحدها، بل تهديد وجودي لكل الدول العربية المحيطة. ومن يظن أن التنازلات أو التحالفات مع تل أبيب ستحميه، عليه أن يراجع التاريخ:
إذ أن كل الأنظمة التي تخلت عن أوراق قوتها أمام عدو توسعي، وجدت نفسها لاحقاً في مرمى الاستهداف.
“ملوك الطوائف” في الأندلس مثال تاريخي صارخ على أن الاستسلام التدريجي لا يحمي، بل يعجل بالسقوط.
درس غزة
التواطؤ على حصار غزة وتركها تواجه آلة الحرب الإسرائيلية وحدها ليس مجرد خطأ أخلاقي، بل خطيئة استراتيجية، لأن سقوط غزة يعني انتقال المشروع الإسرائيلي إلى مراحل أكثر خطورة، تشمل الضفة والأردن وسيناء.
كل “عاقل” استراتيجي يدرك أن خط الدفاع الأول عن الأمن القومي العربي يمر عبر فلسطين، لكن هذا الوعي مغيّب عمدًا في دوائر القرار الرسمية التي فضّلت السلام البارد مع إسرائيل على حساب الأمن القومي الحقيقي.
وبينما نتنياهو كتب بخط عريض على الجدران ما ينتظر المنطقة: إعادة رسم الحدود بالقوة، وترسيخ “إسرائيل الكبرى”، فإن الخيارات أمام الأنظمة العربية واضحة:
إما التحرك الآن عبر إجراءات سياسية واقتصادية مؤلمة لإسرائيل، أو انتظار الدور القادم حين يصل المشروع الإسرائيلي إلى حدودهم وربما إلى عواصمهم.
المعركة لم تعد معركة فلسطين وحدها، بل معركة على هوية ومستقبل المنطقة كلها. الاستمرار في سياسة الاسترضاء لن يوقف أطماع إسرائيل، بل سيغريها بالمزيد.
لقد آن الأوان للعواصم العربية، خاصة القاهرة وعمّان والرياض، أن تدرك أن الوقت ينفد، وأن كل يوم تأخير يمنح نتنياهو مزيداً من الأرض والقدرة، ويقرّب لحظة مواجهة ستكون فيها الشعوب، لا الأنظمة، هي من تدفع الثمن الأكبر.