مستشفيات غزة بالكاد قادرة على العمل تحت وطأة الهجمات الإسرائيلية

يشهد قطاع غزة، المحاصر منذ أكثر من 17 عامًا والمثخن بجراح حرب إبادة مستمرة منذ 19 شهرًا، انهيارًا كارثيًا لنظامه الصحي بحيث أصبحت مستشفيات القطاع بالكاد قادرة على العمل.
ففي الأسابيع الأخيرة، صعّدت دولة الاحتلال الإسرائيلي هجماتها العسكرية على المرافق الصحية، مستهدفةً المستشفيات بشكل مباشر وغير مسبوق هذا العام، ما دفع ما تبقى من المرافق الصحية إلى حافة الانهيار، وفقًا لتحقيق موسع أجرته شبكة “إن بي سي نيوز” الأمريكية.
ويستند التحقيق إلى مراجعة وتحقيق في 27 مقطع فيديو وصورة، وثّقها مدنيون وصحفيون ميدانيون خلال الشهرين الماضيين، كاشفًا حجم الدمار الذي طال المؤسسات الصحية في القطاع.
ومن خلال هذه المشاهد المؤلمة، تتجلى ملامح حملة متواصلة تستهدف المراكز الطبية، في انتهاك سافر للقانون الإنساني الدولي الذي يُفترض أن يحمي المرافق الصحية حتى في زمن الحرب.
استهداف مباشر للمستشفيات
في إحدى اللقطات، التُقطت من كاميرا مراقبة عند مدخل المستشفى الأوروبي في خان يونس، يظهر مدنيون — رجال ونساء وأطفال — يعبرون الباب الرئيسي قبل لحظات من سقوط صاروخ إسرائيلي. الانفجار الذي تلا ذلك تناثر فيه الناس في الهواء، وهرع الناجون مذعورين بحثًا عن مأوى.
وفي حادثة أخرى موثقة، أظهر مقطع فيديو تحقق منه صحفيو الشبكة انفجارًا ضخمًا استهدف مستودعًا طبيًا قريبًا من مستشفى العودة شمال القطاع، وهو مستشفى تعرّض مرارًا للقصف، بما في ذلك في يومي 22 و24 مايو/أيار.
بحسب ينس ليركه، المتحدث باسم مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا): “جميع مستشفيات غزة تقريبًا تضررت أو دُمرت، ونصفها لم يعد يعمل”.
ويضيف: “تكرار استهداف المرافق الطبية يفاقم الكارثة الصحية، ويُهدد حياة آلاف الجرحى والمرضى الذين لم يعد بإمكانهم الحصول على العلاج”.
ورغم الحماية المفترضة التي يمنحها القانون الدولي للمستشفيات، تُصرّ دولة الاحتلال على أن فصائل المقاومة تستخدم هذه المرافق لأغراض عسكرية، وهو ادعاء لم تثبت صحته في معظم الحالات.
في تطور خطير، نظّم جيش الاحتلال جولة محدودة لمجموعة من الصحفيين إلى نفق زُعم أنه تم اكتشافه تحت المستشفى الأوروبي، لكن مراقبين حذروا من استخدام مثل هذه الروايات لتبرير الهجمات المتكررة على المؤسسات الصحية، التي قد ترقى إلى جرائم حرب.
قال ليركه مجددًا: “يجب ألا تُستهدف المستشفيات ولا تُستخدم كساحات معارك. إذا حدث ذلك، فإن العواقب القانونية والإنسانية ستكون جسيمة”.
خدمات صحية محدودة
تشير بيانات منظمة الصحة العالمية إلى أن من أصل 36 مستشفى في قطاع غزة، لا يعمل أي منها بطاقته الكاملة. فقط 17 مستشفى تُقدّم خدمات جزئية، بينما توقفت 19 منشأة عن العمل كليًا.
ومنذ اندلاع الحرب، تعرض النظام الصحي الأوسع — بما في ذلك سيارات الإسعاف والعيادات — لأكثر من 700 هجوم، ما أسفر عن قتل 900 شخص على الأقل، وإصابة أكثر من 1000، بحسب وزارة الصحة الفلسطينية.
في مطلع أبريل/نيسان، استهدفت غارة جوية تابعة للاحتلال الإسرائيلي عيادة تابعة لوكالة الأونروا في جباليا كانت تؤوي نازحين.
وأظهرت اللقطات التي وثّقتها “إن بي سي” مشاهد الدمار المروعة: جدران محطمة، وأثاث متفجر، ومراتب متفحمة. وفي لحظة صادمة، حُملت جثة طفل صغير على عربة يجرها حمار إلى المشرحة.
وفي يوم 13 مايو/أيار وحده، قصفت قوات الاحتلال مستشفيين في خان يونس. أظهر أحد المقاطع أعمدة الدخان تتصاعد من المستشفى الأوروبي، حيث قُتل 16 شخصًا على الأقل وأصيب العشرات، ما دفع المستشفى لتعليق خدماته، وفق منظمة الصحة العالمية.
أما مجمع ناصر الطبي — المستهدف مرارًا — فقد تعرض لغارة جديدة أدّت إلى مقتل شخصين وإصابة 12 آخرين. نشرت الأمم المتحدة صورًا تُظهر حطامًا متناثرًا وأسرّة ملتوية ومعدات مدمّرة.
ووفق منظمة الصحة العالمية، تصاعدت الهجمات على النظام الصحي في مايو/أيار. ففي حين سُجلت خمس هجمات في أبريل، ارتفع العدد إلى 21 في الأسابيع الثلاثة الأولى من مايو، إضافة إلى ثلاث هجمات جديدة لاحقة، من بينها هجوم على مركز غسيل الكلى في المستشفى الإندونيسي في 1 يونيو، وضربات على مستشفيي الأقصى والأهلي يومي 4 و5 يونيو. كما أعلنت المنظمة أن القتال بالقرب من مستشفى الأمل جعله “خارج الخدمة”.
والضغط على المستشفيات القليلة التي لا تزال تعمل بلغ حدًا غير مسبوق، في ظل نقص حاد في الإمدادات الطبية. وبينما سُمح بدخول بعض المساعدات مؤخرًا، إلا أن الكميات لا تفي بالحد الأدنى من الحاجة.
قال محمد صقر، مدير التمريض في مستشفى ناصر: “نحن نغرق في بحر من الدماء. نحتاج إلى تدخل فوري من المنظمات الصحية الدولية وتزويدنا بالإمدادات”.
ويعاني القطاع من حصار خانق وشامل يفرضه الاحتلال منذ ثلاثة أشهر، ما أعاق دخول المعدات الحيوية وقطع الغيار اللازمة لتشغيل الأجهزة الطبية. كما يُهدد استمرار الانقطاعات في التيار الكهربائي وشبكات الإنترنت بزيادة عزلة الطواقم الطبية وصعوبة تنسيق عمليات الإنقاذ والإغاثة.
والاستهداف المتعمد للمرافق الطبية لا يُهدد حياة المرضى فحسب، بل يقوّض مبدأ الحماية الذي يُفترض أن يتمتع به المدنيون في النزاعات المسلحة. وتضع هذه الانتهاكات المجتمع الدولي أمام اختبار حقيقي: هل ستُحاسب دولة الاحتلال على جرائمها، أم سيُسمح باستمرار هذه المجازر بصمت؟.