تحليلات واراء

السلطة بين تقليص الخدمات وتوسيع الأجهزة الأمنية لحماية أمن الاحتلال

أعلنت السلطة الفلسطينية عن فتح باب التجنيد في قوات الأمن الوطني في الضفة الغربية، في وقت تعيش فيه البلاد أزمة مالية خانقة أدت إلى تقليص الخدمات الأساسية في قطاعات التعليم والصحة والموظفين الحكوميين.

وبحسب مراقبين فإن هذه المفارقة تُسلّط الضوء من جديد على أولويات السلطة التي، وعلى ما يبدو، لا تزال تعتبر الأمن الوظيفي لأجهزتها الأمنية أهم من أمن المواطن الفلسطيني وحقوقه الأساسية.

التجنيد وسط التقشف.. علامة استفهام

بينما يُبلّغ المعلمون في المدارس عن تقليص أيام الدوام، وتُغلق أقسام من المستشفيات أو تعمل بطاقة دنيا بسبب العجز في التمويل، وتُخفض رواتب الموظفين الحكوميين أو تؤجل، تقف السلطة الفلسطينية لتعلن عن فرص تجنيد جديدة في جهاز الأمن الوطني.

وفي بيان رسمي، أشارت السلطة إلى فتح باب الانتساب لقوات الأمن في الضفة الغربية، دون أن توضح كيف سيتم تمويل هذا القرار في ظل الأزمة المالية الخانقة.

هذه الأزمة تعود في جزء كبير منها إلى قيام الحكومة الإسرائيلية باحتجاز جزء كبير من أموال المقاصة (الضرائب) التي تجبيها نيابة عن السلطة، بذريعة استمرار السلطة في صرف رواتب أسر الشهداء والأسرى.

لكن المعضلة لا تكمن فقط في التناقض بين الأزمة المالية والتوسع الأمني، بل أيضًا في وظيفة هذه الأجهزة الأمنية: هل هي لحماية الفلسطينيين من الاحتلال والمستوطنين؟ أم لحماية الاحتلال من الفلسطينيين؟

أجهزة أمنية بلا “أمن”

الواقع على الأرض يقول إن قوات الأمن الوطني لا تملك صلاحية أو رغبة حقيقية في حماية الفلسطينيين، خاصة في ظل تصاعد اعتداءات المستوطنين والجيش الإسرائيلي على القرى والبلدات الفلسطينية في الضفة الغربية.

في كل مرة يقتحم فيها الجيش الإسرائيلي مدينة أو مخيمًا فلسطينيًا، تتوارى الأجهزة الأمنية خلف الجدران، ولا تُحرّك ساكنًا.

بل الأسوأ، أن هذه الأجهزة تُمارس القمع والترهيب بحق المقاومين والمعارضين، وتُنسق أمنيًا مع الاحتلال في كثير من الأحيان لتبادل المعلومات واعتقال المطلوبين من وجهة نظر دولة الاحتلال، وليس من وجهة نظر الشعب الفلسطيني.

وفي ظل هذه السياسة، تبدو الوظيفة الأساسية لهذه الأجهزة الأمنية حماية أمن الاحتلال الإسرائيلي وليس أمن المواطنين. وهذا ما يجعل من إعلان التجنيد الجديد خطوة استفزازية، و”توظيفًا لأموال الشعب الفلسطيني لحماية العدو” كما يراه كثيرون.

أولويات مشوهة.. والمواطن يدفع الثمن

منذ سنوات، تتراجع قدرة السلطة الفلسطينية على تقديم أبسط الخدمات للمواطنين، ويُعاني الجهاز الإداري من نقص في الكوادر والتمويل. المدارس أصبحت تفتقر إلى المعلمين، المستشفيات تفتقر إلى الأدوية، والموظفون يئنّون تحت وطأة الاقتطاعات والديون.

ومع ذلك، يبدو أن ميزانية الأمن لا تمسّ، بل يُعاد تعزيزها على حساب باقي القطاعات الحيوية. في ميزانية 2023، على سبيل المثال، خصصت السلطة نحو 28% من نفقاتها لقوى الأمن، مقابل أقل من 10% لقطاع التعليم، ونحو 9% لقطاع الصحة، وفقًا لتقارير مستقلة.

فهل نحن أمام دولة بوليسية بلبوس وطني؟ وهل تحوّلت السلطة إلى أداة ضبط أمني تخدم مشروعًا خارجيًا بدلًا من بناء مجتمع قادر على الصمود والتحرر؟

أزمة الثقة تتعمّق

ما يفاقم الإحباط الشعبي هو الشعور بأن السلطة لم تعد تمثل المشروع الوطني الفلسطيني، بل باتت جزءًا من المنظومة التي تضبط الفلسطينيين وتُعيق أي حراك مقاوم أو تحرري.

كل عملية تجنيد جديدة تُترجم شعبيًا بأنها خطوة لتوسيع جهاز وظيفي، يخدم أمن الاحتلال أكثر مما يخدم المواطن. وفي ظل هذا الإدراك، يتعمّق الانقسام بين الشارع والسلطة، وتتآكل الثقة بالمؤسسات الرسمية.

وقد عبر العديد من النشطاء عن غضبهم من الإعلان الأخير، مؤكدين أن السلطة التي تُعاني من عجز مالي وتقطع الرواتب، لكنها تجد الأموال لتجنيد عناصر أمن جدد، تكشف أولوياتها بشكل لا لبس فيه.

بين الاحتلال والتمويل: السلطة في مأزق

في العمق، تعاني السلطة من أزمة بنيوية مزدوجة: فهي من جهة مرتهنة للاحتلال الإسرائيلي الذي يتحكم بمفاتيح تمويلها من خلال أموال الضرائب، ومن جهة أخرى عاجزة عن تطوير اقتصاد مستقل أو تبني خيارات وطنية تضع الشعب في المقدمة.

وهذه المعادلة تجعلها في كل مرة تُفضّل الحفاظ على أدوات السيطرة الأمنية باعتبارها آخر خطوط دفاعها في مواجهة السخط الشعبي. ولذلك، فإنها تُراهن على “الضبط الداخلي”، حتى لو كان على حساب التعليم، الصحة، العدالة، والكرامة الوطنية.

وهنا يجب أن نسأل: من يُجنّد من؟ هل السلطة تُجنّد الفلسطينيين في مؤسسات وطنية؟ أم تُجنّدهم في أجهزة أمنية تُعيد تدوير الاحتلال بأساليب ناعمة؟

إن المال الفلسطيني اليوم يُجبى لخدمة الأمن الإسرائيلي، سواء عبر التنسيق الأمني أو عبر عسكرة المجتمع تحت وهم الاستقرار. وفي ظل هذا الواقع، لا يمكن الحديث عن سيادة فلسطينية، ولا حتى عن مشروع تحرر حقيقي.

فالسلطة التي تعلن تجنيدًا جديدًا لقوات لا تحمي الفلسطينيين، بل تمنعهم من حماية أنفسهم، ليست سلطة وطنية.. بل إدارة وظيفية تُعيد إنتاج الاحتلال في شكل رسمي مؤسسي.

وما لم تُراجع السلطة أولوياتها بالكامل، فإن الشارع الفلسطيني سيظل يراها كجسم غريب لا يمثله، مهما كثُر المجنّدون، ومهما توسعت الأجهزة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى