تحليلات واراء

السلطة الفلسطينية تتقاعس عن تدويل جرائم الحرب الإسرائيلية في غزة

في الوقت التي اهتز فيها العالم من جديد بعد تقرير شبكة CNN الأمريكية الذي كشف عن قيام الجيش الإسرائيلي بدفن طالبي المساعدات في قبور جماعية بالقرب من مناطق المواجهة في شمال قطاع غزة، تبقى السلطة الفلسطينية تتقاعس عن مجرد تدويل جرائم الحرب الإسرائيلية في غزة.

ويبرز المراقبون الغياب الكامل لموقف سلطة رام الله إزاء التكشف المتوالي لحدة جرائم حرب الإسرائيلية، وانعدام التحرك، وصمت يُشبه التواطؤ السياسي.

إذ لم تُصدر وزارة الخارجية في رام الله بيانًا حاسمًا، لم يتحرك الجهاز الدبلوماسي في أي عاصمة، لم تُعلن رام الله حتى نيتها طلب لجنة تحقيق أممية وكأن المأساة حدثت في كوكب آخر لا يمت بصلة لشعب يزعم هؤلاء أنهم يمثلونه.

وقد يبدو الأمر للوهلة الأولى حالة من التباطؤ أو البطء البيروقراطي، لكن تراكم التجارب خلال الأشهر الماضية يكشف أن هذا الصمت خيار سياسي واعٍ، وليس مجرد إهمال عرضي.

فمنذ اليوم الأول لحرب الإبادة على غزة في أكتوبر 2023، اتخذت السلطة موقعًا خلفيًا يقترب من الحياد في لحظة تستدعي أعلى درجات المواجهة السياسية والدبلوماسية بحيث لا بيانات عاجلة، لا تحركات قانونية واسعة، لا تعبئة لمؤسسات الأمم المتحدة، ولا حتى ضغط لتحريك محكمة الجنايات الدولية بطريقة جدية.

السلطة الفلسطينية ويكيبيديا

مع كل جريمة جديدة في غزة – من قصف المستشفيات، إلى مجازر المدارس، إلى قتل المدنيين في قوافل الإجلاء، وآخرها دفن طالبي المساعدات أحياء أو تحت الأنقاض – تعيد السلطة إنتاج الأسلوب ذاته: بيان باهت أو تجاهل كامل وكأن وظيفتها الوحيدة أصبحت الحفاظ على مقعد في طاولة لا تملك فيها أي تأثير.

وحين يسأل الفلسطينيون: “ماذا ينقص السلطة كي تتفاعل مع تقرير CNN؟”ن فإن السؤال لا يتعلق بمجرد موقف إعلامي، بل بمدى شرعية وسلوك مؤسسة يفترض أنها تمثل شعبًا يتعرض لأسوأ مجزرة موثقة في العصر الحديث.

الواقع أن السلطة لا ينقصها شيء؛ لديها جهاز دبلوماسي ضخم، ميزانيات، سفارات، وعلاقات دولية واسعة، ولديها أيضًا ملفات قانونية جاهزة، ومحامون دوليون، وأرشيف هائل من الجرائم الإسرائيلية التي تنتظر التدويل. ينقصها فقط الإرادة السياسية والشجاعة الوطنية.

تقرير CNN الذي أرّق العالم… ولم يُزعج رام الله

التقرير الذي بثّته CNN لم يكن مجرد مادة صحفية؛ كان صدمة إنسانية. تصوير مباشر لأشخاص جائعين يبحثون عن الطعام، قبل أن يُقتلوا ويُدفنوا بطريقة مهينة على يد الجيش الإسرائيلي. انتشر الفيديو كالنار في الهشيم، وصدرت إدانات دولية، وطالبت منظمات حقوقية بتحقيق فوري.

وفي المقابل، السلطة الفلسطينية لم تطالب حتى بلجنة تقصي حقائق، ولم تحشد أي اجتماع طارئ في مجلس الأمن أو الجمعية العامة، رغم أنّ تحريك هذه المؤسسات من صلب مهامها الرسمية.

وكان تقرير CNN فرصة ذهبية لسلطة رام الله كي تتحرك بقوة وتستعيد جزءًا من شرعيتها المفقودة، عبر إطلاق حملة سياسية دولية والضغط لعقد جلسة عاجلة في مجلس الأمن وتحريك ملف الجنايات الدولية والمطالبة بلجنة تحقيق دولية والعمل على بناء تحالفات حقوقية عالمية لمساءلة دولة الاحتلال.

لكن شيئًا من ذلك لم يحدث. وبدلًا من أن تكون السلطة رأس حربة في مواجهة جريمة تهز الضمير العالمي، اختارت أن تكون مجرد متفرج.

ويبرز المراقبون أن هذا الغياب ليس معزولًا عن سياق أكبر. فخلال سنوات، أثبتت السلطة أنها تنشط فقط في ملفات تؤثر على حضورها السياسي: خلافات داخلية، ترتيبات إدارية، أو صراعات تتعلق بالسيطرة الأمنية في الضفة.

أمّا غزة – التي تحاول السلطة تصويرها وكأنها “إقليم آخر” – فتتعامل معها بقدر من البرود الذي يلامس حدود القسوة.

ورغم أن غزة جزء من الشعب والهوية والمصير الفلسطيني، فإن السلطة بدت وكأنها تستثمر صمتها في رسالة مبطنة: “لسنا مسؤولين عما يجري هناك”، وذلك في موقف خطير يسهم في تعزيز الرواية الإسرائيلية بأن غزة “خارج المعادلة السياسية الفلسطينية”.

العجز الدبلوماسي أم حسابات أوسلو؟

تكشف مصادر دبلوماسية مطلعة أن قيادة السلطة تخشى من أن أي تحرك قوي قد يفتح عليها أبواب مواجهة مع الولايات المتحدة – الراعي السياسي والأمني للسلطة.

فالقيادة التي رُبطت مصالحها باتفاقات أوسلو وبأجهزة التنسيق الأمني، تجد نفسها عاجزة عن انتقاد واشنطن أو إسرائيل بلهجة قوية، حتى حين يتعلق الأمر بجريمة دفن مدنيين.

يضاف إلى ذلك أن السلطة تخشى أن أي تدويل لجرائم الحرب في غزة قد يعزز شرعية المقاومة ويقوّي موقعها السياسي في أي مفاوضات مستقبلية، وهو ما تعتبره رام الله تهديدًا مباشرًا لنفوذها.

وبينما تتعرض غزة لحصار خانق، وتعيش مجزرة متواصلة، فإن السلطة تبدو وكأنها تسير في اتجاه موازٍ لا علاقة له بمعاناة الناس. هذا الانفصال غير المسبوق بين القيادة والشعب خلق حالة من فقدان الثقة، وأعاد طرح سؤال جوهري: لمن تعمل هذه السلطة؟ ولأي مشروع تنتمي؟.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى