الإبادة الجماعية في غزة بين صمت المحكمة وضجيج الإعلام وميلوني

بقلم المحامي الدكتور عصام عابدين
الأنباء المتداولة عن إحالة رئيسة وزراء إيطاليا جورجيا ميلوني إلى المحكمة الجنائية الدولية بتهمة التواطؤ في الإبادة الجماعية في قطاع غزة، لا تستند إلى أي إجراء رسمي من المحكمة بعد مراجعة موقعها الرسمي، بل إلى تصريحات ميلوني الإعلامية.
وحتى لو قدّم أيّ محامٍ بلاغاً بموجب المادة (15) من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية (نظام روما)، فإنّ ذلك لا يعني أنّ المدعي العام للمحكمة، كريم خان، قد باشر تحقيقاً رسمياً أو أسند تهمة “التحريض المباشر والعلني” على ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية وفقاً المادة (25/3/هـ) من نظام المحكمة. ومع ذلك، وجدت وسائل الإعلام في تصريحات ميلوني مادة لتضخيم العناوين، فحولت مجرد بلاغ مُحتمل إلى “قضية دولية” في مشهدٍ يعكس كيف يُصنع الرأي العام حين تصمت العدالة الدولية.
وبين وضوح الأدلة الجنائية وصمت العدالة الدولية، يتلكأ مكتب الادعاء العام لدى المحكمة في متابعة الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب، رغم أنه سبق وأن أسند تُهماً بصورهما إلى نتنياهو وغالانت، فيما يتجاهل الأدلة الموثوقة وتقرير لجنة التحقيق الدولية المستقلة (COI) الأخير الذي أكّد وقوع أربع صور من “جرائم الإبادة الجماعية” الواردة في نظام روما، في قطاع غزة.
إنه مشهدٌ يُجسّد عجز المحكمة الجنائية الدولية أمام نفوذ المستعمرين، وتغوّل السياسة وهيمنة الدول المموّلة على مسار العدالة الدولية وسُبل إنصاف الضحايا، في وقتٍ يصنع فيه الإعلام روايته الخاصة، بين تواطؤ الصمت وتضليل الصورة.
رغم أنّ نظام المحكمة الجنائية الدولية يُقرّ بالمسؤولية الجنائية الأصلية عن “التحريض المباشر والعلني” على ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية، تحديداً، بموجب أحكام المادة (25/3/هـ)، فإنّ الحالة المتداولة لا تنطبق عليها المعايير القانونية الصارمة، للتحريض الإجرامي، في جريمة الجرائم.
ويقتضي الأمر أن يُقيّم المدعي العام لدى المحكمة أية معلومات مُقدَّمة، وأن يتثبّت من توفر نية الإبادة الجماعية (مادة 6)، قبل أن يطلب الإذن بفتح تحقيق من الدائرة التمهيدية تمهيداً لإصدار أوامر الاستدعاء أو القبض بموجب المادة (58). وهو ما يُفسّر كيف يمكن للتضخيم الإعلامي أن يخلق “قضية دولية” دون أن يكون الادعاء العام للمحكمة قد فتحتها أصلاً.
تأتي تصريحات ميلوني في ظل احتجاجات مُتصاعدة في إيطاليا على انحياز حكومتها للاحتلال الإسرائيلي الاستعماري، ومحاولاتها عرقلة “أسطول الصمود” الإنساني الذي أبحر إلى غزة وخذلان المشاركين فيه، ما يجعل رواية ميلوني عن “الإحالة إلى المحكمة الجنائية الدولية” أقرب إلى مناورة سياسية لامتصاص الغضب الشعبي وتبديل مسار النقاش العام.
هكذا تُستَخدم العدالة لتلميع السياسة، وتُوظَّف مأساة غزة في مشهدٍ سريالي يُغذّيه تضليل الإعلام حين يتكلم السياسيون ويصمت الضحايا.
في المحصلة، تُجسّد مناورة “ميلوني” نموذجاً فاضحاً لتسخير الخطاب القانوني في خدمة الخداع السياسي، وحرف الأنظار عن تواطؤها في العدوان عبر ضجة إعلامية مُفتعلة وفارغة، استدرجت خصومها والإعلام معاً إلى المشهد المُضلل، إلى حيث أرادت.
لكن هذا الضجيج، مهما علا، لا يُبدّد صوت الضحايا، ولا يُطفئ نور الحقيقة التي تشهد بها السماء قبل الأرض، يا غزة.