طوفان الأقصى لحظة مفصلية في التاريخ العربي بانتظار كلمته النهائية

تمر الأمم والشعوب عبر تاريخها بلحظات مفصلية، تعيد ترتيب معادلات القوة، وتغيّر مسار الأحداث، وتترك بصماتها على الأجيال.
ويمكن أن ترتبط مثل هذه اللحظات التاريخية بكوارث أو انتصارات، لكنها جميعًا تصنع التحولات الكبرى في السياسة والجغرافيا والمجتمع.
من “بيرل هاربور” إلى “هيروشيما وناكازاكي”، ومن “السويس” إلى سقوط جدار برلين، شكلت كل واحدة منها منعطفًا أعاد رسم المشهد الدولي.
وفي الشرق الأوسط، تظل لحظة السابع من أكتوبر 2023 أحد هذه المفاصل الحاسمة، التي تتفاعل إرهاصاتها على المستويين الإقليمي والعالمي حتى اليوم.
طوفان الأقصى ويكيبيديا
يرى الكاتب التونسي طارق عمراني أن لحظة السابع من أكتوبر، التي أطلقت عليها المقاومة الفلسطينية اسم “الطوفان”، لم تكن مجرد عملية عسكرية، بل كانت حدثًا مفصليًا أعاد إشعال القضية الفلسطينية في الوعي العربي والعالمي.
إذ بعد سنوات من الركود والجمود، أعادت هذه اللحظة للقضية الفلسطينية مركزيتها، وأجبرت العالم على إعادة النظر في موازين القوى في المنطقة.
ورغم الانتصارات الميدانية الكبرى التي حققتها دولة الاحتلال، بما في ذلك تدمير البنى التحتية في غزة وإعادة ترتيب مواقعها الاستراتيجية في لبنان وإيران، تبقى نتائج “الطوفان” غير مكتملة، مع تداعيات قد تستمر لعقود.
لكن النجاحات الميدانية الإسرائيلية، التي استهدفت تصفية رموز المقاومة وفرض قواعد واقع جديدة، لا تلغي المغانم الاستراتيجية التي أفرزها السابع من أكتوبر.
فقد أظهرت هذه اللحظة قدرة المقاومة على استعادة المبادرة، وتحدي الرأي العام الدولي، وإثبات أن معادلات القوة التقليدية ليست ثابتة.
وبالرغم من الأضرار الجسيمة التي لحقت بمحور المقاومة، فإن الصور والوثائق التي كشفت المأساة في غزة قد حفرت أثرًا عميقًا في الوعي العربي والغربي، محوّلة التعاطف العالمي نحو الضحايا الفلسطينيين، خصوصًا بين الشباب.
تحولات عالمية لصالح فلسطين
كشفت دراسة مشتركة لجامعة هارفارد ومؤسسة هاريس أن نحو 60% من الشباب الأميركيين من جيل “زد” يميلون الآن لدعم المقاومة الفلسطينية في مواجهة إسرائيل، وهو تحول وصفت صحف غربية كبرى بأنه مقلق لصناع القرار في واشنطن ولللوبي المؤيد لإسرائيل.
ويعكس هذا التغير في التوجهات تحولات جذرية في الوعي الدولي، والتي ستؤثر حتمًا على السياسات المستقبلية تجاه المنطقة.
في السياق العربي، أعادت عملية “الطوفان” القضية الفلسطينية إلى قلب النقاش العام، وأسست لوعي جمعي جديد، يُذكر بالعنفوان التاريخي للشعوب التي لم تستسلم.
كما أكد التاريخ أن الانتصارات الكبرى لا تتحقق في لحظة واحدة، وأن النتائج النهائية للأحداث المفصلية غالبًا ما تتضح بعد مرور الوقت، حين تستقر الوقائع وتبدأ آثارها طويلة المدى في الظهور.
مثال ذلك الثورة الفرنسية، والحضارة الإسلامية، والنضال الجزائري، التي استمر أثرها رغم هزائم متتالية، ما يجعل الحكم المسبق على اللحظات التاريخية المتفجرة أمرًا سابقًا لأوانه.
السابع من أكتوبر يشبه “تغير المناخ الاستراتيجي” في المنطقة باعتباره قوة لا يمكن تجاهلها، تتطلب الصبر والدراسة والتقدير الواقعي للنتائج.
هذا الطوفان لم يقل كلمته الأخيرة بعد، وما زالت تداعياته تتكشف على الساحة العربية والدولية، لتعيد رسم خرائط النفوذ، وتحرك الملفات السياسية، وتعيد إشعال الجدل حول مستقبل القضية الفلسطينية والمقاومة في مواجهة الاحتلال.
وبينما تبدو الانتصارات الإسرائيلية ملموسة على المدى القصير، فإن الإرث الاستراتيجي للسبت السابع من أكتوبر سيستمر في تهديد الانفراد بالقرار الإسرائيلي، ومراكمة التحديات أمام سياسات الهيمنة التقليدية.
فمثلما أظهرت لحظات تاريخية أخرى، يبقى الصبر والتحليل المتأني هما السبيل لفهم تأثير الأحداث الكبرى على مسار الشعوب، والقدرة على استشراف مستقبل أكثر عدلاً واستقرارًا.
في المحصلة، يبقى السابع من أكتوبر لحظة مفصلية في تاريخ الأمة العربية، مليئة بالدروس والعبر، تدعونا إلى تقييم الوقائع بهدوء وعمق، وفهم أن “الطوفان” لم يقل كلمته الأخيرة بعد، وأن تأثيره الاستراتيجي سيستمر في تشكيل ملامح المنطقة لأجيال قادمة.