تحريض عصمت منصور: تهيئة ناعمة لنزع السلاح تحت غطاء “المصارحة”

عاد عصمت منصور ليثير الجدل في الساحة الفلسطينية بعد منشور له حول احتمال “تخزين أو تجميد السلاح” في قطاع غزة في مسعى مفضوح لتهيئة الوعي العام لفكرةٍ تتوافق تمامًا مع الخطط الإسرائيلية والأجندات الخارجية الرامية إلى إسقاط معادلة السلاح باعتبارها الركيزة الأساسية لصمود غزة وميزان الردع الفلسطيني منذ عقود.
فالطرح الذي يقدّمه منصور يقوم على معادلة مضلّلة بأن أي سلاح لا يُستخدم أو يُخزن يصبح بلا قيمة، وبالتالي فإن “تجميده” هو عمليًا تسليمه متجاهلا احتمالية العودة لاستخدام نفس السلاح حال تجدد العدوان الإسرائيلي.
وبينما قد يبدو للبعض طرح منصور عقلاني من منظور تقني، إلا أنها يُستخدم هنا أداة سياسية لإسقاط قدسية السلاح المقاوم من عقول الشعب، وإقناعه بأن أي مطلب بنزع السلاح ليس أكثر من عملية “ترتيب أولويات” بعد حرب الإبادة الإسرائيلية.
ويتجاوز مثل هذا التقييم العسكري ليصل إلى ترويج سردية الهزيمة، التي يعتمد عليها الاحتلال دومًا لتبرير أي تحرك سياسي يرمي إلى تصفية المقاومة.
والسؤال الجوهري الذي يتجاهله منصور: إذا كان السلاح بلا قيمة عند تخزينه، فهل يكون كذلك في وجه الاحتلال وحده؟ وهل يصبح بلا قيمة فقط عندما يطالب العدو بتجريده؟ وهل يمكن لقطاع محاصر، منزوعة سيادته، مهدد بالاجتياحات الدائمة، أن يعيش بلا أي قوة ردع؟.
شبكة أفيخاي ويكيبيديا
يرى مراقبون أن أخطر ما في خطاب منصور أنه لا يطرح أي بديل، لا هيكل دفاعيًا بديلاً ولا صيغة أمنية وطنية جامعة، ما يجعله عمليًا يتقاطع مع رؤية الاحتلال القائمة على التجريد الكامل للمقاومة من أدواتها، دون توفير أي سياق سياسي أو ضمانات.
ويندرج هذا النوع من الخطاب في إطار سياسة أوسع تستهدف هندسة الوعي الفلسطيني بعد كل حرب عبر الترويج لفكرة أن “العسكرة انتهت”، وأن “المرحلة تتطلب الشجاعة للاعتراف بالهزيمة”، وهي العبارة التي يكاد ينقلها منصور كما هي من أدبيات مرحلة ما بعد غزو العراق، أو التجارب التي روّجت فيها واشنطن وتل أبيب لمفاهيم “الانتقال من المقاومة إلى الدولة” في البيئات المنهكة.
لكن من الواضح أن منصور يتجاهل عن عمد أن المقاومة في غزة لم تنشأ بقرار حزبي، بل بقرار اجتماعي فرضه الاحتلال نفسه، وأن نزع السلاح لا يمكن أن يكون خيارًا ما دام الاحتلال قائمًا.
فالسلاح في الوعي الفلسطيني ليس مجرد أداة إطلاق نار، بل رمز حماية، وميزان ردع، وضمانة لعدم تكرار نكبة جديدة في ظل نوايا إسرائيلية معلنة لإعادة احتلال القطاع والتهجير القسري.
كما يتجاهل أن أي نقاش حول السلاح تحت النار هو نقاش قائم على الإكراه؛ إذ لا يمكن لمن يعيش عدوانًا مستمرًا أن يحدد خياراته بحرية.
ولذلك فإن طرح منصور بأن “المرحلة تتطلب الاعتراف بالخسارة” ليس إلا غطاءً لخطاب استسلامي يهدف إلى إعادة تشكيل المزاج العام بما يتوافق مع أجندات خارجية تتبنى علنًا تصفية المقاومة.
واللافت أن النص يبني على فرضية لم يتبنّها الشعب نفسه: أن الحرب انتهت بخسارة فادحة، وأن النتيجة الطبيعية هي إعادة ترتيب الأوراق بما يشمل “تجميد السلاح”. لكن الواقع الشعبي في غزة والضفة والخارج يُظهر أن الفلسطينيين، رغم الخسائر الهائلة، ما زالوا يرون في المقاومة نموذجًا للكرامة والتمسك بالأرض، وليس مشروعًا فاشلاً يجب التبرؤ منه.
وبدلًا من تحليل جذور الأزمة، يلجأ منصور إلى تحويل النقاش كله نحو المقاومة وحدها، وكأن الاحتلال بلا دور، وكأن المعركة لم تكن بين طرف يُبيد شعبًا وآخر يدافع عنه بما يعفي الاحتلال من مسؤوليته ويحمّل الفلسطينيين وحدهم ثمن الصراع، ثم يطالبهم بالاستجابة لشروط المنتصر كما لو كانوا هم المعتدين.
وهنا يصبح خطاب منصور متطابقًا مع ما تريده تل أبيب عبر ترسيخ شعور الهزيمة ونزع الشرعية عن السلاح والأهم تهيئة المجتمع لقبول نموذج أمني جديد قد تشارك فيه قوات تابعة للسلطة أو لجماعات مصنّعة خارجيًا.
من هو عصمت منصور؟
تحوّل عصمت منصور، الأسير الفلسطيني السابق، إلى نموذج بارز لكيفية استخدام الاحتلال لبعض الأصوات الفلسطينية لتشويه صورة المقاومة والصمود في غزة.
ومنذ خروجه من السجن، لعب منصور دور “المحلل والخبير”، لكنه غالبًا ما يكرر خطاب الاحتلال أو يتوافق معه في نقاط حساسة، خاصة عند الحديث عن المقاومة.
وفي إبريل الماضي، شارك في لقاء جمعه بشخصيات إسرائيلية خلال حرب الإبادة في غزة، بينهم أعضاء كنيست وعائلات جنود قتلى وأسرى لدى المقاومة، وقدم خلاله “تحليلًا للتطورات في الداخل الفلسطيني في سياق القضية الإقليمية”، بحضور صحفي إسرائيلي استعرض اهتمامات الإدارة الأميركية آنذاك.
ويعكس هذا اللقاء مدى التوافق بين خطاب منصور ومصالح الاحتلال، ويبرز كيفية استغلال بعض الأصوات الفلسطينية لتزييف الواقع وتشويه صورة المقاومة.
ويذكر أن امتدح صحفي إسرائيلي خطاب منصور في فترات سابقة، ما يعكس رضى تل أبيب عن توجهاته.
كما هاجم منصور في مناسبات سابقة الشهيد يحيى السنوار، رئيس المكتب السياسي لحماس سابقًا، واصفًا إياه بـ”عديم الرحمة”، وهو توصيف يتطابق مع حملات التحريض الإسرائيلية، ما يعكس استمرار تبنيه للرواية الإسرائيلية في تحليلاته ومواقفه.






