تحليلات واراء

استبعاد توني بلير… أول تصدّع يفضح فشل رهانات السلطة الفلسطينية

كشف خبر استبعاد توني بلير من قائمة المرشحين لعضوية “مجلس السلام” الخاص بإدارة غزة بعد الحرب بوضوح عن محدودية خيارات السلطة الفلسطينية ورهاناتها الخاطئة خلال الأشهر الماضية.

إذ تحدثت وسائل الإعلام الأمريكية عن سقوط خيار بلير بعد أن راهنت السلطة على دور ما لها في غزة من خلاله وتورّطت في التعويل عليه رغم سجله السياسي الأسود في العراق وارتباطه العضوي بالمشروع الأميركي ـ الإسرائيلي.

فقد رأت السلطة في بلير “جسرًا” نحو مرحلة ما بعد الحرب، ونافذة محتملة للتأثير في صياغة ترتيبات غزة، لكنها تجد نفسها اليوم أمام حقيقة مرة بان الشخص الذي وضعت عليه رهاناتها الكبرى تم إسقاطه بسهولة من قبل الأطراف العربية والإسلامية، من دون أن تمتلك السلطة القدرة على الدفاع عنه أو فرض بقائه، رغم كل ما بنته من اتصالات وتفاهمات معه.

ويشكل هذا السقوط أول تصدّع ظاهر لا في هندسة الإدارة الأمريكية للمرحلة المقبلة فقط، بل في الاستراتيجية الفلسطينية الرسمية التي قامت على الوهم أكثر مما قامت على الفهم.

السلطة الفلسطينية ويكيبيديا

في منتصف تموز/يوليو الماضي بادر الرئيس محمود عباس للاجتماع مع بلير، في العاصمة الأردنية عمّان مقدما أول إشارة رسمية لفتح الباب رسميًا أمام رئيس الوزراء البريطاني الأسبق للتقدم كـ”عراب مشروع تهجير غزة” عبر خططه المشبوهة لإعادة إعمار القطاع وتحويله إلى مساحة استثمارية مهيمنة عليها تل أبيب ومصالح دولية.

وفي حينه حذر المراقبون من أن لقاء عباس مع توني بلير مؤشر خطير على اتجاهات سياسية قد تحمل في طياتها تهديدات حقيقية لوجود الفلسطينيين في قطاع غزة، وربما لكل المشروع الوطني الفلسطيني.

ولاحقا تكررت اللقاءات بين وفود السلطة بزعامة حسين الشيخ وتونير بلير، وبدا أن القيادة في رام الله تعتقد أن الرجل قادر على تقديم “دور مركزي” في غزة بحكم علاقاته الغربية وقدرته على التواصل مع الإدارة الأميركية.

لكن هذا الرهان كان فاشلا من أساسه باعتبار أن بلير، الذي يمثل واحدًا من أسوأ نماذج الدبلوماسية الغربية في العالم العربي، هو ذاته الشخص الذي ارتبط اسمه بالدمار في العراق وبالدفاع غير المشروط عن دولة الاحتلال.

ومع ذلك، اختارته السلطة أو وافقت على اختياره رغم إدراكها الكامل أن اسمه مرفوض على نطاق واسع عربيًا وإسلاميًا وشعبيًا وهو ما عكس خللًا عميقًا في تقدير موازين القوى الحقيقية في المنطقة، ويؤكد أن السلطة تبحث فقط عن رضا واشنطن بدل البحث عن شراكة عربية صلبة، أو عن رؤية فلسطينية مستقلة تضبط مسار “اليوم التالي”.

استبعاد توني بلير

رأت أوساط سياسية غربية أن استبعاد بلير بمثابة رسالة مزدوجة بان لا وصاية غربية على غزة، ولا دور لمن يعتبر جزءًا من مشكلات الشرق الأوسط، لا جزءًا من حلولها.

لكن بالنسبة للسلطة الفلسطينية، لم يكن الحدث مجرد “استبعاد اسم” بل ضربة مباشرة لمسارها السياسي خلال الشهور الماضية.

فبدل أن تقود سلطة رام الله هي هذا الاعتراض، وجدتها العواصم العربية متأخرة ومترددة، وكأنها تتحرك دائمًا في الذيل لا في المقدمة وهو ما يعمّق السؤال الأكبر: لماذا تصبح السلطة دائمًا جزءًا من ترتيبات صاغها الآخرون، لا صاحبة القرار فيها؟.

ويرى مراقبون أن سقوط بلير من الهرم الذي كانت واشنطن تبنيه لمرحلة ما بعد الحرب يكشف هشاشة البناء الأميركي، لكنه في الوقت نفسه يفضح هشاشة الدور الفلسطيني الرسمي.

فالسلطة كانت تراهن على أن وجود بلير يعطيها مدخلًا لموقع ما في غزة فيما اليوم يتضح أن وجودها نفسه ليس مضمونًا، وأن دورها مرهون بتوازنات الدول لا بوزنها الذاتي.

فمنذ سنوات تحولت السلطة إلى لاعب ينتظر الآخرين ليحددوا موقعه، بدل أن تكون هي التي تضع خطوط اللعبة، فيما يعد أكبر إشارة على فشل الرهان على شخص لا يملك شرعية عربية، وعلى هندسة أميركية لا تحظى بتأييد إقليمي، وكذلك على أن غزة يمكن أن تُدار من الخارج بدون صيغة سياسية تعبّر عن شعبها.

هل تتعلم السلطة؟

السؤال الجوهري اليوم هل تقرأ السلطة الفلسطينية هذا التطور كجرس إنذار؟ وهل تدرك أن الارتباط الأعمى بالمقاربات الإسرائيلية والأمريكية غربية يقودها دائمًا إلى خسارة دورها بدل تعزيزه؟ ثم هل تستخلص أن الشرعية العربية والشعبية أهم بكثير من رضا الدبلوماسيين الغربيين؟.

حتى اللحظة، لا مؤشرات على ذلك، فالمسار السياسي للسلطة يبدو أسير عقلية “التوسط بأي ثمن” بدل “إعادة بناء المشروع السياسي الفلسطيني”. وهذه العقلية هي التي جعلتها تراهن على رجل مثل بلير، ثم تجد نفسها مكشوفة عندما انهارت ورقة الرهان.

ويشار إلى أن معهد توني بلير واجه اتهامات متزايدة بالمشاركة في خطط لإعادة إعمار غزة، خطط تحمل في طياتها نوايا تهجير قسري ممنهج.

فقد كشفت تقارير صحفية دولية، وعلى رأسها “فاينانشال تايمز” وموقع “ميدل إيست آي” البريطاني، عن وثائق سرية تكشف عن عرض تقديمي بعنوان “الثقة العظيمة”، أعدته مجموعة من رجال الأعمال الإسرائيليين بدعم استشاري من مجموعة “بوسطن الاستشارية” (BCG)، يقترح مشاريع ضخمة لإعادة تطوير القطاع، مع افتراضات خطيرة بأن 25% من سكان غزة سيغادرون “طواعية” ولن يعودوا.

هذه الأفكار ليست سوى محاولات لتبييض صفحة التطهير العرقي والتغيير الديموغرافي، عبر تقديمها بلباس اقتصادي استثماري مزعوم، وتحويل غزة إلى نسخة شبيهة بجزر اصطناعية مثل تلك في دبي، تحمل أسماء مشاريع استثمارية مرموقة باسم قادة خليجيين، ما يعكس محاولة لربط المشروع بمصالح إقليمية كبيرة لتوفير غطاء سياسي.

في المقابل فإن الخطاب الرسمي للسلطة الذي يؤكد على ضرورة تسليم السلاح وانخراط المقاومة في العمل السياسي وفق برامج منظمة التحرير، يتماهى مع الخطط التي تهدف إلى إضعاف المقاومة، وجعل السلطة الواجهة التي تمر من خلالها مشروعات الاحتلال، بما في ذلك إعادة الإعمار المشروطة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى