حين تسقط الجولان من الخريطة… النظام السوري يطبّع بالصمت

أثار نشر وزارة الخارجية والمغتربين السورية خريطة رسمية لـ“سوريا الجديدة” منقوصة من مرتفعات الجولان المحتلة موجة غضب وتساؤلات واسعة، لم تهدأ حتى الآن في ظل غياب أي تعليق أو توضيح رسمي.
فالخريطة، التي ظهرت هذا الأسبوع في منشور رسمي على حساب الوزارة في منصة “إكس” تحت عنوان “سوريا بدون قانون قيصر”، جاءت في سياق احتفالي برفع العقوبات، لكنها فجّرت في المقابل أزمة سياسية ورمزية تتجاوز بكثير مسألة “خطأ تصميمي” كما حاول بعض المدافعين عن النظام تصويرها.
والجولان، بوصفه أرضاً سورية محتلة منذ عام 1967، هو أحد أعمدة الخطاب السياسي والقومي الذي بنى عليه النظام السوري، بشقيه القديم والجديد، شرعيته لعقود طويلة، ورفعه شعار “الممانعة” في مواجهة دولة الاحتلال الإسرائيلي.
من هنا، فإن تغييب الجولان عن خريطة رسمية صادرة عن وزارة سيادية لا يمكن التعامل معه باعتباره زلة تقنية عابرة، خصوصاً حين يقترن بصمت رسمي مطبق، وغياب أي اعتذار أو تصحيح علني.
من هو أحمد الشرع ؟
جاءت ردة الفعل الشعبية على منصات التواصل الاجتماعي عنيفة وغير مسبوقة. اتهامات مباشرة وُجهت إلى الحكومة بالتنازل عن الجولان، أو على الأقل بالتطبيع الضمني مع واقع الاحتلال الإسرائيلي.
واعتبر كثيرون أن حذف الجولان من الخريطة يرقى إلى اعتراف سياسي غير معلن بالأمر الواقع الذي فرضته دولة الاحتلال، خاصة في ظل سياق إقليمي ودولي يشهد موجة تطبيع متسارعة، وضغوطاً لإعادة دمج دمشق في النظامين العربي والدولي.
في المقابل، انبرى مؤيدو النظام للدفاع عن الخطوة، معتبرين أنها “خطأ فني” لا أكثر، وأن تحميلها دلالات سياسية هو محض “مزايدة وطنية”.
غير أن هذا التبرير بدا هشاً أمام سؤال جوهري: إذا كان الأمر مجرد خطأ، فلماذا لم تبادر وزارة الخارجية إلى تصحيحه فوراً؟ ولماذا لم يصدر أي توضيح رسمي يبدد الشكوك، ويعيد التأكيد على الموقف السوري المعلن من الجولان بوصفه أرضاً محتلة لا تسقط بالتقادم؟
ويؤكد المراقبون أن صمت النظام السوري يفتح الباب واسعاً أمام تأويلات خطيرة، خصوصاً في ظل ما يسميه بعض المحللين “الوقوعية الجديدة” التي باتت تحكم سلوك النظام السوري.
وبحسب المراقبين فإن هذه الوقوعية تقوم على التسليم بموازين القوة القائمة، وتغليب منطق البقاء السياسي ورفع العقوبات وإعادة العلاقات، على حساب الثوابت التي طالما جرى التلويح بها في الخطاب الرسمي.
أحمد الشرع ويكيبيديا
الأخطر من ذلك أن هذا الصمت يأتي في لحظة حساسة، تشهد فيها المنطقة إعادة رسم للخرائط السياسية والتحالفات، بينما تواصل إسرائيل فرض وقائع جديدة على الأرض، سواء عبر توسيع الاستيطان في الجولان، أو عبر تكريس اعتراف دولي تدريجي بضمّه، كما فعلت الولايات المتحدة عام 2019.
وفي هذا السياق، فإن أي تراجع رمزي أو لغوي عن التمسك بالجولان يُقرأ إسرائيلياً بوصفه مؤشراً ضعف، أو قبولاً ضمنياً بالأمر الواقع.
ولا يمكن فصل هذه الحادثة عن مسار أوسع من الغموض الذي يطبع موقف النظام السوري الحالي من تل أبيب.
فعلى الرغم من استمرار الخطاب الرسمي الذي يكرر عبارات “الاحتلال” و”الحقوق غير القابلة للتصرف”، إلا أن الممارسة العملية تشير إلى انكفاء واضح، وتجنب لأي مواجهة سياسية أو دبلوماسية حقيقية حول الجولان، حتى على مستوى المحافل الدولية.
ويبدو أن الأولوية باتت اليوم لتثبيت الحكم، ورفع العقوبات، وإعادة فتح السفارات، ولو كان الثمن تمييع قضايا سيادية كبرى.
ويشدد المراقبون على أن تغييب الجولان عن خريطة رسمية، مهما كانت الذريعة، يشكل ضربة رمزية قاسية لفكرة السيادة الوطنية. فالخرائط ليست رسومات محايدة، بل أدوات سياسية تعكس تصور الدولة لحدودها وحقوقها.
وحين تصدر خريطة مبتورة عن جهة رسمية، دون تصحيح أو توضيح، فإنها ترسل رسالة سلبية إلى الداخل والخارج على حد سواء.
وفي الداخل، تعمّق هذه الخطوة فجوة الثقة بين السلطة وشرائح واسعة من السوريين، الذين يرون فيها دليلاً إضافياً على أن الشعارات الكبرى لم تعد تحكم القرار السياسي. وفي الخارج، تمنح إسرائيل فرصة لاستثمار هذا الالتباس، وتقديمه كقرينة على تراجع سوري غير معلن عن الجولان.
وبحسب المراقبين فإنه لا يمكن للنظام السوري أن يطالب باستعادة شرعيته الوطنية أو القومية، بينما يلتزم الصمت حيال قضية بحجم الجولان. فإما أن يكون ما جرى خطأً يستوجب الاعتذار والتصحيح العلني، أو أنه تعبير عن تحول سياسي عميق يجب مصارحة السوريين به.
أما الاستمرار في الصمت، فلا يمكن تفسيره إلا بوصفه رضوخاً جديداً لمنطق القوة الإسرائيلية، وتكريساً لواقع الاحتلال، تحت لافتة “الوقوعية” والتكيف مع موازين القوى، على حساب الحق والسيادة.





