العقوبات الأمريكية على السلطة الفلسطينية… في أي سياق تُقرأ؟

فرضت الإدارة الأمريكية في الساعات الأخيرة، عقوبات على مسؤولين في السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير الفلسطينية، بدعوى دعمهم لـ”الإرهاب” و”تقويض فرص السلام”.
وبحسب مراقبين فإن هذه العقوبات لا يمكن قراءتها بمعزل عن سياقها السياسي الأوسع، ولا عن العلاقة المختلة تاريخيًا بين واشنطن والسلطة الفلسطينية، التي لطالما سعت إلى التقرب من الغرب عبر الالتزام بالتنسيق الأمني وسياسة “سحب الذرائع”، دون أن تجني إلا مزيدًا من الضغط والعزلة.
عقوبات بدوافع سياسية مغلفة بلغة أمنية
تأتي العقوبات الأمريكية الأخيرة بعد سلسلة تحركات فلسطينية دولية، أبرزها دعم القيادة الفلسطينية لحراك أممي للاعتراف بدولة فلسطين، وهو ما أغضب دولة الاحتلال الإسرائيلي واعتبرته واشنطن “تصعيدًا أحادي الجانب” و”خرقًا للالتزامات السابقة”.
وبرّرت وزارة الخارجية الأميركية القرار باتهام السلطة ومنظمة التحرير بـ”مواصلة دعم الإرهاب” و”تدويل الصراع مع إسرائيل”، وذلك في إشارة إلى الدعم السياسي والدبلوماسي للقضايا القانونية المرفوعة في المحاكم الدولية ضد مسؤولين إسرائيليين متهمين بارتكاب جرائم حرب في غزة.
ورغم أن واشنطن لم تُفصح عن قائمة الأسماء المشمولة بالعقوبات، فإنها أكدت حرمانهم من تأشيرات الدخول إلى الأراضي الأمريكية، وهددت بالمزيد من الإجراءات إذا لم تتراجع القيادة الفلسطينية عن ما اعتبرته “تحركًا استفزازيًا في ساحة القانون الدولي”.
السلطة تحت سيف الابتزاز السياسي
ما يثير التساؤل هو توقيت هذه العقوبات، الذي يتزامن مع زيارة المبعوث الأميركي ستيف ويتكوف إلى تل أبيب ولقائه برئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، في لحظة تشهد فيها دولة الاحتلال عزلة دولية متزايدة بسبب استمرار الحرب في غزة وارتفاع عدد الضحايا المدنيين.
ويبدو واضحًا أن واشنطن لا تكتفي بحماية دولة الاحتلال دبلوماسيًا، بل تسعى أيضًا إلى إسكات كل صوت فلسطيني يحاول الاستفادة من أدوات القانون الدولي.
وبذلك، تتحول العقوبات إلى وسيلة لإجبار السلطة على الالتزام الكامل بالمسار السياسي الذي تحدده دولة الاحتلال والولايات المتحدة – لا ما يفرضه القانون الدولي أو الإرادة الشعبية الفلسطينية.
عندما يصبح “الاعتدال” تهمة
طوال السنوات الماضية، تبنّت السلطة الفلسطينية سياسة تقوم على “سحب الذرائع”: التنسيق الأمني مع دولة الاحتلال، الامتناع عن دعم المقاومة المسلحة، تجنّب المواجهات الدبلوماسية، وحتى تفادي أي خطوات رمزية من شأنها إغضاب واشنطن أو تل أبيب.
ورغم ذلك، تُواجه اليوم عقوبات وإدانات، ما يكشف هشاشة الرهان على “الاعتدال” الفلسطيني، الذي لم يُترجم إلى مكاسب سياسية أو حتى إنسانية.
فبدلًا من أن تُكافأ السلطة على التزامها بالتنسيق الأمني، ها هي تُعاقب على مجرّد دعمها للخطاب القانوني الدولي، أو دفاعها عن حق الفلسطينيين في الدولة والعدالة. وهو ما يطرح تساؤلًا وجوديًا: إذا كانت كل أبواب المقاومة مغلقة، وكل مسارات الدبلوماسية ممنوعة… فماذا تبقّى للقيادة الفلسطينية أن تفعل؟
تضييق الخناق ومنع الخيارات
العقوبات الأمريكية ليست فقط اقتصادية أو رمزية، بل هي جزء من منظومة أوسع من الضغوط المتصاعدة تمارسها واشنطن وحلفاؤها الغربيون على السلطة الفلسطينية، لمنعها من اتخاذ أي خطوات خارج الإطار الإسرائيلي – الأمريكي، حتى وإن كانت رمزية كطلب عضوية كاملة في الأمم المتحدة أو دعم ملفات جنائية أمام المحكمة الدولية.
فالمطلوب من القيادة الفلسطينية، بحسب هذه المقاربة، هو الصمت والخضوع والامتناع عن أي حراك خارجي، تحت طائلة العقوبات السياسية والمالية.
وهذا ما يعكس استمرار إذلال السلطة الفلسطينية، رغم أنها الطرف الوحيد الذي ما زال متمسكًا بخيار المفاوضات والتنسيق الأمني.
مفارقة الازدواجية الأمريكية
ما يفاقم الشعور باللاعدالة أن هذه العقوبات تأتي في وقت ترتفع فيه أصوات دولية كثيرة تؤيد الاعتراف بالدولة الفلسطينية – بما في ذلك من كندا وفرنسا والمملكة المتحدة – بينما تختار واشنطن أن تعاقب الطرف الفلسطيني على سعيه نحو الشرعية الدولية، وتتجاهل في المقابل الجرائم اليومية التي ترتكبها دولة الاحتلال في غزة والضفة الغربية.
وبذلك، تُقدّم الولايات المتحدة نفسها كطرف غير محايد على الإطلاق، لا بل كشريك مباشر في عرقلة تطلعات الفلسطينيين، وفي تبييض جرائم الاحتلال عبر منع الضحايا من اللجوء إلى آليات القانون الدولي.
ماذا بعد العقوبات؟
من غير المتوقع أن تُغير هذه العقوبات كثيرًا في مواقف قيادة السلطة الفلسطينية، التي أصبحت تدرك أن الالتزام بالحد الأدنى من التوازن لم يعد مجديًا.
لكن الأهم من ذلك أن هذه الخطوة تعزز القناعة الشعبية الفلسطينية بأن الرهان على واشنطن كوسيط نزيه قد انتهى فعليًا.
بل إن هذه العقوبات قد تدفع السلطة – رغم ترددها – إلى مراجعة جدية لبعض خياراتها، خاصة فيما يتعلق بإعادة النظر في التنسيق الأمني، أو بتوسيع قنوات التواصل مع قوى دولية بديلة كالصين وروسيا، أو المنظمات الدولية التي لا تخضع للنفوذ الأميركي.
وفي المحصلة، تأتي العقوبات الأميركية في سياق لا يهدف فقط إلى ردع السلطة الفلسطينية، بل إلى إعادة تعريف الممكن السياسي للفلسطينيين: لا مقاومة، ولا دبلوماسية، ولا حتى رمزية سيادية.
وهي سياسة تؤكد أن التعامل الأميركي مع القضية الفلسطينية لم يغادر مربع الهيمنة والإذلال، حتى تجاه أكثر الأطراف “اعتدالًا” وانضباطًا. أما الرسالة الأهم، فهي أن سياسة سحب الذرائع لا تسحب إلا ما تبقى من كرامة وطنية، ولا تمنع العدوان بل تبرّره.