وعود محمود عباس.. التآمر ضد المقاومة والقضية يَجُبُ ما قبله

منذ توليه رئاسة السلطة الفلسطينية في يناير/كانون الثاني 2005، لم يكفّ محمود عباس عن إطلاق سلسلة وعود لامست مشاعر الفلسطينيين وأشعلت آمالهم، لكن سرعان ما تبيّن أنها لم تكن أكثر من شعارات جوفاء، ومناورات إعلامية لا تهدف إلا إلى كسب الوقت وتثبيت السلطة.
لعلّ أخطر ما في تلك الوعود أنها لم تُخرق فحسب، بل تحوّل نقيضها إلى سياسة ممنهجة. واليوم، بعد أكثر من عشرين عاماً على رئاسته، يُمكن القول إن تآمر محمود عباس على المقاومة وتغذيته مشروع خنقها وشيطنتها قد غطّى على كل تقصيراته السابقة، ونسف حتى إمكانية التماس الأعذار له.
من قتل عرفات؟ سؤال مع وقف التنفيذ
لطالما وعد عباس، منذ الأيام الأولى لتولّيه الرئاسة، بأنه سيسعى لكشف ملابسات اغتيال ياسر عرفات ومحاسبة من يقف وراء الجريمة. وعد تكرّر مئات المرات في خطاباته المحلية والدولية، بل إن ملف التحقيق نُقل إلى محافل أممية، ورفعت شعارات تطالب بإحقاق “العدالة لعرفات”.
لكن بعد أكثر من عقدين، لم يظهر شيء من الحقيقة، وكأن القضية دُفنت مع جثمان الزعيم الفلسطيني.
الأدهى من ذلك أن عباس، بصفته الرئيس وصاحب السلطة على الأجهزة الأمنية، لم يحرّك ساكناً لتحديد الجهات المسؤولة، رغم أن بعض المقربين منه لمحوا – دون الإفصاح – بأن دائرة الاتهام تضيق حول شخصيات نافذة داخل السلطة نفسها.
التفسير الأرجح أن عباس تعمّد إبقاء الملف غامضاً، لئلا ينكشف دور بعض حلفائه أو شركائه في السلطة وتورطه بشكل شخصي في جريمة التخلص من عباس وتهميد كرسي الرئاسة لنفسه، فضلا عن حماية خطوطه المفتوحة مع الاحتلال.
التنسيق الأمني: 66 وعداً كاذباً
في كل مرة كانت دماء الفلسطينيين تسيل على يد الاحتلال، كان عباس يخرج بتصريح غاضب يلوّح فيه بوقف التنسيق الأمني. وفي أرشيف الخطابات السياسية، يمكن رصد ما لا يقل عن 66 وعداً قطعها بوقف هذا التنسيق، الذي يُعدّ جوهر العلاقة الأمنية بين السلطة والاحتلال الإسرائيلي.
لكن التنسيق الأمني لم يتوقف يوماً، بل تعمّق وتوسّع. فقد أصبح الأداة التي يستخدمها الاحتلال الإسرائيلي للسيطرة على الضفة الغربية، دون الحاجة لتكثيف وجودها العسكري المباشر.
فالسلطة، عبر أجهزتها الأمنية، باتت تعمل كذراع وظيفي للاحتلال، تعتقل المقاومين، وتُحبط عمليات، وتمنع أي تحرك شعبي خارج عن السيطرة.
وفي الوقت الذي يخرج فيه عباس ليرفع صوته ضد الاستيطان، يكون جنرالاته على اتصال دائم بالجانب الإسرائيلي لتبادل المعلومات وتنسيق الحملات المشتركة.
الانتخابات الرئاسية: وعد مؤجل إلى الأبد
في دولة تحترم نفسها، تُعدّ الانتخابات شرطاً أساسياً للشرعية السياسية. لكن في فلسطين، لم تُجرَ انتخابات رئاسية منذ عشرين عاماً، رغم الوعود المتكررة من عباس بإجرائها. في كل مرة يُطرح هذا الملف، تخرج الرئاسة لتُحمّل “الانقسام” أو “الاحتلال” مسؤولية التعطيل.
والحقيقة أن عباس لا يريد انتخابات، لأنه يدرك أن صندوق الاقتراع سيُسقطه شعبياً. لم يعد يملك قاعدة جماهيرية تُذكر، وشرعيته استُهلكت تماماً. إنه يحكم بقرار إداري، لا بتفويض شعبي، ويستند في وجوده إلى دعم أمني إسرائيلي ودولي.
لذلك فإن وعود عباس بإجراء الانتخابات لم تكن سوى أوراق ضغط للاستهلاك السياسي والدعاية الداخلية، وليس تعبيراً عن التزام حقيقي بالديمقراطية.
اتفاقات بلا إلغاء.. حتى لو التهمنا الاستيطان
منذ 2009، أعلن عباس أكثر من مرة أنه سيلغي الاتفاقيات مع دولة الاحتلال الإسرائيلي إذا لم تلتزم بوقف الاستيطان. لكن ما حصل أن الاستيطان تضاعف، وتم تكريس الوقائع على الأرض، ولم تُلغَ أي اتفاقية. لا أوسلو أُسقطت، ولا باريس الاقتصادية، ولا التنسيق الإداري.
السلطة لا تزال متمسكة بشروط أوسلو، رغم أنها أصبحت في نظر الشعب عبئاً وطنياً وأخلاقياً. لا توجد إرادة سياسية حقيقية لدى عباس للتخلي عن هذه الاتفاقات، لأنها توفر له شرعية شكلية أمام المجتمع الدولي، وتمنحه نفوذاً مؤسساتياً يُستخدم لقمع خصومه السياسيين أكثر من استخدامه لخدمة القضية.
المقاومة الشعبية.. شعارات بلا ممارسة
وعد عباس، مراراً وتكراراً، بتبني المقاومة الشعبية كوسيلة لمواجهة الاحتلال والاستيطان. لكن في الواقع، لم تُفعّل هذه المقاومة قط بالشكل المنظّم أو المؤسسي. بل إن أي مبادرة شعبية في الميدان كانت تُخنق في مهدها، وتُلاحَق بالتضييق الأمني.
في مناطق الاحتكاك مع الاحتلال، لا يُسمح بانتفاضة شعبية مستقلة، إلا إذا كانت منضبطة بتعليمات الأجهزة الأمنية، وغالباً ما تكون مؤقتة ومحسوبة. لقد تحوّلت المقاومة الشعبية إلى ديكور سياسي في خطابات عباس، بينما الميدان يخلو من أي دعم حقيقي لها. كل ما أُنجز من تحركات كان بعزائم الأهالي والمجموعات الشبابية، رغم العقبات التي تضعها السلطة لا بسبب دعمها.
خنق المقاومة.. هذا ما تحقق فعلياً
مقابل كل الوعود الكاذبة التي تبناها عباس، يبرز وعد وحيد سعى عباس فعلاً لتحقيقه: خنق المقاومة المسلحة. فمنذ عام 2007، وحتى اليوم، لم يدّخر جهداً في ملاحقة خلايا المقاومة، واعتقال عناصرها، وتسليمهم أحياناً لإسرائيل، أو التنسيق لمنع عمليات ضد الاحتلال.
في جنين ونابلس وطولكرم، تقف أجهزة السلطة في مواجهة أبناء شعبها، فقط لأنهم قرروا مقاومة الاحتلال. يتم وصف المقاومين بأنهم “خارجون عن القانون”، وتُشنّ عليهم حملات ناعمة حيناً وشرسة أحياناً، بتهمة “تهديد الأمن الداخلي”، رغم أن الاحتلال هو مصدر التهديد الحقيقي.
ويؤكد مراقبون أن استهداف المقاومة المسلحة لم يكن قراراً عارضاً أو خاضعاً للضغوط، بل أصبح عقيدة سياسية لدى عباس، تستند إلى وهم “المفاوضات الأبدية” و”السلام الموعود”.
وفي هذا السياق، لا يتردد في التعاون مع أجهزة الاحتلال لضمان “الهدوء”، حتى لو كان الثمن حياة مقاومين ومجتمعات بأكملها تُسحق تحت جنازير الدبابات.
التآمر يَجُبُّ ما قبله
إن كل وعود عباس التي نكثها، من كشف قتلة عرفات إلى وقف التنسيق الأمني وإجراء الانتخابات، تبقى في نهاية المطاف تفاصيل مقارنةً بما يفعله اليوم ضد المقاومة. وإن خنق روح المقاومة وتكريس السلطة كحاجز أمني يحمي الاحتلال، هو الخطيئة الكبرى التي تلغي ما قبلها، وتُسقط أي ذريعة تُسوّق له.
فلم يعد من المنطقي الحديث عن فشل أو عجز أو سوء تقدير، بل عن سياسة متعمدة لإجهاض المشروع الوطني الفلسطيني، وتحويل السلطة إلى أداة لإدامة الاحتلال بدل مواجهته.
عباس لم يُخلف وعوده فحسب، بل خانها، وها هو يُنهي ما بدأه: إجهاض المقاومة، ومحاصرة الفلسطينيين بين احتلال لا يرحم، وسلطة لا تمثلهم بل تقتات على معاناتهم خدمة لمصالح شخصية مقيتة.