حرف الأنظار عن المأساة.. “ثورة الجياع” نموذجًا للتضليل وصناعة الفتنة في غزة

في الوقت الذي تتصاعد فيه المأساة الإنسانية في قطاع غزة إلى مستويات غير مسبوقة، استنفرت ماكينة الاحتلال الإسرائيلي أدواتها الإعلامية والأمنية بأقصى طاقتها من أجل حرف الأنظار وإعادة توجيه الأنظار عن المسؤول الحقيقي عن هذه المجازر الإنسانية، عبر تحريض الشارع الفلسطيني على المقاومة تحت يافطات مثل “ثورة الجياع”.
ولم تعد هذه المساعي تقتصر على القصف والقنص والتهجير، بل باتت تعتمد على استراتيجية مركّبة تستخدم فيها دولة الاحتلال شبكات إعلامية وأمنية ناعمة، أفرادًا ومنصات وصفحات مموّلة، لتأليب الفلسطينيين على بعضهم البعض، وإشعال نار الفتنة في أحلك لحظات المعاناة الجماعية، في خيانة واضحة لواقع المأساة الكبرى التي تسبب بها الاحتلال ذاته.
فبركات منظمة.. من إنتاج “شبكة أفيخاي”
في مقدمة أدوات الاحتلال، تبرز “شبكة أفيخاي”، وهي مجموعة من النشطاء المرتبطين بشكل مباشر بأجهزة الاحتلال، يتخفون خلف هويات فلسطينية أو عربية، ويعملون على ترويج محتوى مزيف أو مضلل يخدم الرواية الإسرائيلية ويضرب الجبهة الداخلية الفلسطينية من الداخل.
أحد أبرز وجوه هذه الشبكة هو “حمزة المصري”، الذي يظهر على منصات متعددة تحت شعارات وطنية زائفة، بينما يروج لمقاطع فيديو مفبركة يدّعي فيها خروج تظاهرات ضد المقاومة في غزة، متهمًا إياها بـ”الفساد والاحتكار”، في محاولة مكشوفة لتوجيه الغضب الشعبي نحو الضحية بدلًا من الجلاد.
ما يُغفل عن عمد في هذه الروايات هو أن دولة الاحتلال هي من يُحكم قبضته العسكرية على كل منافذ غزة، ويمنع دخول الغذاء والماء والدواء، وهي من تعمد إلى قصف الشاحنات الإنسانية أو عرقلتها أو توجيهها لمناطق بعينها، لتتلاعب حتى بالمساعدات في سياق معركتها ضد الوجود الفلسطيني.
اختراق نفسي من صناعة الاحتلال
يعرف الاحتلال الإسرائيلي أن صور الأطفال الجائعين والنازحين المنهكين تحرّك العالم وتزيد الضغط عليه، لذلك يعمل على إعادة صياغة هذا الغضب وتحويله من اتهام له إلى اتهام للمقاومة.
ويستثمر الاحتلال في ذلك أدوات نفسية وإعلامية كثيرة، من بينها الترويج لفكرة أن “المقاومة تحتكر الطعام”، أو أنها “تمنع وصول المساعدات”، أو أنها “تستغل المعاناة الشعبية”.
وبينما يتصاعد أعداد الشهداء الذين يسقطون بسبب القصف أو الجوع، تُبث مقاطع فيديو مشكوك فيها عن “غضب شعبي” في بعض مناطق القطاع، غالبًا ما تُثبت التحقيقات أنها مفبركة أو قديمة أو مأخوذة من سياقات أخرى.
الهدف الحقيقي من هذه الحرب النفسية ليس فقط تشويه صورة المقاومة، بل كسر وحدة الصف الشعبي، وإثارة النزاع الداخلي، وبث الإحباط والانقسام، تمهيدًا لتحقيق أهداف سياسية وأمنية يَعجز الاحتلال عن تحقيقها بالقوة المسلحة.
تحذيرات أمنية
في مواجهة هذا التصعيد الإعلامي، أصدرت منصة “الحصن للوعي الأمني” – وهي مبادرة توعوية فلسطينية تُعنى بمواجهة الاختراقات النفسية والإعلامية – تحذيرًا صريحًا للصحفيين والنشطاء والمؤثرين بعدم المساهمة، دون قصد، في نشر محتوى يخدم الاحتلال أو يروّج لروايته، خصوصًا في ما يتعلق بأزمة الجوع المتفشية في غزة.
وجاء في بيان المنصة أن “نشر صور أو معلومات غير متحقق منها أو مضللة حول توزيع المساعدات أو أدوار الفصائل يُعد خيانة للواقع وخدمة مباشرة لآلة الحرب النفسية التي يديرها الاحتلال”.
وأوضحت المنصة أن حل الأزمة الإنسانية في غزة لا يكمن في بضعة شاحنات مساعدات تُدخل عبر التنقيط، بل يتطلب “تدفقًا إنسانيًا هائلًا، ورفعًا كاملًا وفوريًا للحصار، وفتح معبر رفح بشكل دائم، دون تدخلات إسرائيلية أو قيود أمنية”.
احتلال يقتل ويجوع.. ثم يلوم الضحية
المفارقة الفادحة أن الاحتلال الإسرائيلي هو من خلق المجاعة، ثم يستخدم آثارها كذريعة لتأليب الفلسطينيين على بعضهم. هو من قصف خطوط الكهرباء، وخزانات الوقود، والمخابز، ومحطات تنقية المياه.
كما أن الاحتلال هو من يمنع دخول القوافل الغذائية والدوائية، ويقصف مراكز توزيع المساعدات. ثم، بكل وقاحة، يرسل أذرعه الإعلامية لتتهم فصائل المقاومة بأنها “تمنع الطعام عن الناس”.
هذا النوع من التضليل المركّب يهدف لتجريد المقاومة من حاضنتها الشعبية، وإشغال الشعب في مشاحنات داخلية، وإظهار الاحتلال كطرف “متفرج”، بل وأحيانًا كـ”منقذ” عبر الإنزالات الجوية أو الفيديوهات الدعائية عن “التعاطف مع الأطفال”.
لكن الشعب الفلسطيني، رغم الجوع والمآسي، أثبت في كل المحطات أنه يعرف عدوه جيدًا، ويدرك أن ما يتعرض له ليس ناتجًا عن “خلل داخلي”، بل عن مشروع صهيوني استعماري يهدف إلى إبادة وجوده من الأساس.
لا لتبييض وجه الاحتلال
يؤكد مراقبون أن الرهان الإسرائيلي على اختراق الوعي الجمعي الفلسطيني لن ينجح طالما ظلّت الأصوات الواعية تتصدر المشهد، وتحذّر من فخاخ الاحتلال الإعلامية والنفسية.
ليس هناك من هو فوق النقد أو المساءلة داخل الساحة الفلسطينية، لكن لا يجوز أن يُفتح هذا الباب تحت القصف والتجويع، وبأدوات مريبة تصبّ في مصلحة من يقتل الأطفال ويدمر المنازل.
والمطلوب من النشطاء والمؤسسات الإعلامية الفلسطينية اليوم أن تُغلّب المسؤولية الوطنية على رغبة السبق أو الإثارة. فكل خبر غير موثّق، وكل رواية تنقل دون تحقق، قد تتحول إلى سهم مسموم في ظهر المحاصَرين، وإلى خدمة مجانية في سجلّ الاحتلال الإعلامي.
أما “ثورة الجياع” التي يروّج لها الاحتلال، فهي ثورة مفبركة يُراد لها أن تكون طلقة رحمة في قلب الصمود الفلسطيني. ولكن الجياع في غزة يعرفون جيدًا من سرق خبزهم، ومن قصف أفرانهم، ومن منع عنهم المساعدات… ولن يثوروا إلا على من جاعوا بسببه، لا على من قاوم دفاعًا عنهم.