تحليلات واراء

صور التعري القسري في غزة… بين دعاية الاحتلال والانحدار الأخلاقي لشبكة أفيخاي

منذ بدء حرب الإبادة الإسرائيلية المستمرة على قطاع غزة منذ 22 شهرًا، باتت الصورة سلاحًا دعائيًا أساسيًا في ماكينة الاحتلال بما في ذلك نشر صور التعري القسري لمعتقلين مدنيين.

إذ أن صور فلسطينيين مقيّدين ومُجبرين على خلع ملابسهم تُبث بانتظام عبر قنوات إسرائيلية رسمية وغير رسمية، وتُروّج على أنها “دليل على استسلام المقاومين” أو “نجاح الجيش في تطهير غزة من البنية التحتية للمقاومة”.

لكن التدقيق في تلك الصور، والاطلاع على خلفيات الأشخاص الظاهرين فيها، يكشف حقيقة صادمة: كلهم تقريبًا من المدنيين.

الصورة كسلاح دعائي

لطالما استثمر الاحتلال الإسرائيلي في الصورة، سواء عبر بث مقاطع استهدافات “نوعية” أو تسويق مشاهد لاستسلام مفترض لمقاومين.

وفي خضم حرب الإبادة، برزت إحدى أبشع أدوات الاحتلال: إجبار الفلسطينيين على خلع ملابسهم في العراء، تحت تهديد السلاح، وتصويرهم ونشر الصور باعتبارهم “عناصر مقاومة سلمت نفسها”.

لكن واقع الأمر، بحسب شهادات ووقائع موثّقة، يشير إلى أن أغلب من ظهروا في هذه الصور هم مدنيون، بينهم صحفيون معروفون، أطباء، مهندسون، وعمال. وبعضهم معروف بالاسم والوظيفة لدى زملائهم ومجتمعهم.

بل إنّ هناك من لا يزال مفقودًا بعد نشر صورته، ما يعزز المخاوف من أن ما جرى لم يكن توقيفًا قانونيًا، بل إخفاءً قسريًا يُبرَّر إعلاميًا تحت غطاء “مكافحة الإرهاب”.

تحريض شبكة أفيخاي

ليس مفاجئًا أن ينشر الاحتلال تلك الصور، ولا أن يقدّمها للعالم في إطار دعايته الأمنية. فالحرب النفسية عنصر مركزي في منهجه، وغايته ليست فقط “تحطيم إرادة المقاومة” بل كسر الروح الجمعية للشعب الفلسطيني.

لكن المفزع حقًا، هو أن تُشارك بعض الأصوات من أعضاء شبكة أفيخاي في الترويج لهذه الصور أو تبريرها.

أن يخرج صحفي أو ناشط يكتب من منفاه في الخارج أن من يظهر في الصور “سلّم نفسه”، أو “نال جزاءه”، فهذا يُعد انحدارًا أخلاقيًا لا يقل خطورة عن جريمة الاحتلال الأصلية.

هنا نحن لا نتحدث عن اختلاف سياسي، بل عن الاصطفاف مع دعاية العدو، والترويج لسرديته، في خيانة لضحايا محتملين، وتشويه متعمّد لصورة من قد يكونون معتقلين أو مفقودين أو حتى شهداء.

من أين جاء هذا الخلل؟

هذا التواطؤ الإعلامي – سواء بقصد أو من دونه – يكشف عن خلل أعمق في بعض شرائح الوعي الفلسطيني، خاصة في الشتات، حيث تنقطع صلات البعض بما يجري ميدانيًا على الأرض.

ومع غياب التواصل المباشر مع واقع المجزرة اليومية في غزة، وتراكم التأثيرات النفسية والإعلامية، قد يجد البعض نفسه دون وعي يُعيد إنتاج خطاب العدو.

وتبرز هنا مسؤولية النخبة الإعلامية الفلسطينية في الخارج، خاصة أولئك الذين يحظون بمنصات جماهيرية، في توخي الحذر عند التعامل مع الصور والمزاعم الإسرائيلية. فالمعيار يجب أن يكون دائمًا: ما مدى صحة الادعاء؟ ومن المستفيد من نشر هذه الرواية؟

لماذا لا يُفرّق العدو بين مدني ومقاوم؟

تجربة الاحتلال مع الشعب الفلسطيني، وخاصة في غزة، أثبتت مرارًا أن العقيدة العسكرية الإسرائيلية لا تميز بين مدني ومقاتل. فقد قصفوا المدارس والمستشفيات والمخيمات، وقتلوا الصحفيين والمُسعفين والعجزة.

وحتى صور “الاستسلام” التي ينشرها، لا تخرج في إطار قانوني أو ضمن معايير إنسانية، بل في أغلبها هي مشاهد إذلال وتعري قسري تهدف إلى كسر الكرامة الفردية والجماعية، تمامًا كما جرى في سجن أبو غريب الأمريكي في العراق.

ما المطلوب؟

أولًا، يجب التذكير بأن استخدام صور الأسرى والمعتقلين بهذه الطريقة، دون ملابس، وداخل سياقات مهينة، يُعد جريمة حرب وانتهاكًا صارخًا لاتفاقيات جنيف. ويجب أن يُطالب المجتمع الدولي بمحاسبة الاحتلال عليها، لا أن يتغاضى عنها تحت ذريعة “الحرب على الإرهاب”.

ثانيًا، على الأصوات الفلسطينية – خاصة تلك التي تعمل في المجال الإعلامي أو الحقوقي – أن تتحمّل مسؤوليتها الأخلاقية والوطنية في مواجهة الدعاية الإسرائيلية، لا الانجرار خلفها أو منحها غطاءً ضمنيًا.

وثالثًا، يجب تعزيز أدوات التحقق الفلسطيني، سواء من خلال فرق ميدانية أو منصات إعلامية مهنية، قادرة على توثيق خلفيات المعتقلين، ونفي سردية الاحتلال أو كشف زيفها بالأسماء والوثائق.

وفي خضم المأساة، لا ينبغي أن نُضيّع البوصلة. حتى إن وُجد بين الأسرى مقاومون، فإنهم أسرى حرب. وحتى إن اختلفنا معهم فكريًا أو سياسيًا، فإن عدوهم هو عدونا، ومصيرهم تحت الاحتلال لا يجب أن يُصبح محل شماتة أو انتقام لفظي.

إذ أن ما يجري ليس خلافًا سياسيًا، بل جريمة تجري على مرأى من العالم. وأي تبرير لها – مهما صغر – هو مساهمة في استمرارها. في معركة وجودية كهذه، لا بد أن تكون الكرامة خطًا أحمر، والاصطفاف الأخلاقي واضحًا، لا رماديًا. والعدو الحقيقي… لا يجب أن نخطئ في تسميته.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى