معالجات اخبارية

استراتيجيات “تجار الحرب” ترهق سكان غزة وتستنزف آخر ما تبقى في جيوبهم

في الوقت الذي يواجه فيه أكثر من مليوني فلسطيني في قطاع غزة خطر المجاعة، وسط تدمير البنية التحتية وتوقف عجلة الحياة بالكامل، تنشط شريحة محددة تُعرف في الأوساط الشعبية بـ”تجار الحرب” في التلاعب بالاحتياجات الأساسية للسكان من غذاء ودواء ومستلزمات معيشية، عبر استراتيجيات ممنهجة هدفها تحقيق أرباح خيالية، ولو على حساب الجوعى والمرضى.

ومنذ اندلاع العدوان الإسرائيلي على القطاع في أكتوبر/تشرين الأول 2023، برزت هذه الفئة في المشهد الاقتصادي المنهار من خلال ثلاث أدوات رئيسية: تنقيط البضائع بكميات محدودة، الإبقاء على الأسعار عند ذروتها، وجمع السيولة النقدية عبر آليات مشبوهة لتدوير الأموال.

سياسة التنقيط

يعتمد بعض التجار على إدخال كميات قليلة من البضائع الأساسية – سواء عبر الشاحنات المخصصة للمساعدات أو ما يتم تهريبه عبر قنوات غير رسمية – ثم عرضها على دفعات مدروسة للمستهلكين.

والهدف من هذه السياسة هو تعزيز الشعور بـ”الندرة” ورفع الطلب، ومن ثم الإبقاء على الأسعار مرتفعة.

يقول محمد أبو جابر، وهو عامل إغاثة محلي في مخيم الشاطئ: “بعض التجار يتعمدون عرض خمسين كيس طحين فقط في اليوم، رغم أنهم يملكون مئات الأكياس في المخزن. يريدون خلق طابور، وضجة، ثم يبيعونه بـ150 شيكل بدلاً من 60.”

ويضيف أن بعض التجار يديرون عملياتهم بشكل احترافي أشبه بشبكات احتكار مصغّرة، ويتعاونون أحيانًا مع جهات ذات نفوذ لتأمين الحماية أو التغاضي عن ممارساتهم.

الأسعار تحلّق رغم دخول المساعدات

رغم الإعلان عن دخول عشرات الشاحنات يوميًا من المساعدات، لا تزال أسعار المواد الغذائية الأساسية مرتفعة بشكل يفوق قدرة معظم العائلات.

في السوق السوداء، وصل سعر لتر الزيت إلى 80 شيكل، وكيس الأرز إلى 200 شيكل، في حين يتراوح سعر الخبز بين 15 و20 شيكل للرغيف الكبير، إن وُجد.

سعاد الكحلوت، أرملة تعيش في حي الزيتون، قالت إن ما تحصل عليه من طرد إغاثي كل شهر لا يكفي أسبوعًا.

وأضافت “بعد أسبوع، نبدأ بدفع ما تبقى لنا من المال لأصحاب البقالات. من لا يملك مالًا يبقى جائعًا. هناك من يحتكر الطعام ومن يبيعه بسعر مضاعف.”

ويقول مراقبون إن بعض التجار يبيعون جزءًا مما يحصلون عليه من مساعدات إغاثية مجانية، مثل الطحين والسكر والزيت، بعد “إعادة تغليفه” وتغييب أثر علامات التوزيع المجاني عنه.

الهدف جمع السيولة وليس توزيع السلع

واحدة من أكثر الاستراتيجيات استنزافًا هي محاولة تجار الحرب جمع أكبر قدر ممكن من السيولة النقدية.

مع شح الأموال بين أيدي الناس، تتفنن بعض المحال والموردين في “تفريغ الجيوب” عبر عروض مغرية للشراء الفوري، أو عروض تقسيط تنتهي بالحجز على ممتلكات المواطنين، ولو كانت رمزية.

وترصد مصادر محلية “عشرات القضايا لمواطنين فقدوا ذهب زوجاتهم أو أثاث منازلهم بسبب ديون تراكمت نتيجة شراء احتياجات أساسية بأسعار غير منطقية. تجار الأزمات يعرفون متى وكيف يبتزّون الناس.”

كما أن هناك من يفرض “عمولات نقدية” على شراء المساعدات، بحيث يدفع المستهلك مبلغًا نقديًا كي يحصل على حصة غذائية مسجلة باسم شخص آخر.

غياب الرقابة والفراغ الإداري

الفراغ المؤسساتي وتفكك مؤسسات الرقابة الاقتصادية – نتيجة الحرب واستهداف البنية الحكومية – سمح لهذه الفئة بالتحرك بحرية شبه تامة. لا توجد جهات رقابة فعلية، ولا منظومة قانونية قادرة على التصدي للاحتكار والاستغلال.

كما أن الظروف الأمنية لا تسمح للجهات الشرطية أو القضائية بالتحرك الميداني، ما يخلق فراغًا يستغله “تجار الأزمات” لترسيخ نفوذهم.

يقول باحثون اقتصاديون إن الحرب لم تكن فقط عسكرية أو إنسانية، بل شكلت أيضًا “حربًا طبقية داخل المجتمع، بحيث أن من لا يملك القوة أو رأس المال أو النفوذ صار رهينة. المواطن العادي في غزة يدفع ثمن الصراع ثلاث مرات: بالقصف، بالجوع، وبالاستغلال.

دعوات إلى رقابة عاجلة

وسط هذا المشهد المأساوي، تدعو منظمات المجتمع المدني إلى تحرك عاجل للحد من تغوّل هذه الطبقة الطفيلية، وإنشاء آليات شعبية للرقابة والتوزيع العادل، ولو بشكل مؤقت.

وتقترح بعض المبادرات تشكيل “لجان شعبية للتسعير والمتابعة” داخل الأحياء، ومراقبة المتاجر وتوثيق المخالفين، والضغط عبر وسائل التواصل لإجبار المحتكرين على التراجع.

لكن بدون حلول جذرية، وفتح المعابر بشكل دائم، واستعادة دور الحكومة الرقابي، ستبقى غزة تحت رحمة حفنة من “تجار الأزمات”، يربحون كل يوم من جوع شعب يعيش أفظع كارثة إنسانية في تاريخه الحديث.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى