بالصوت المجتزأ والإنكار.. هكذا يُبيّض الاحتلال المجازر ضد المجوعين في غزة

في ظل تصاعد المجاعة والأوضاع الإنسانية الكارثية في قطاع غزة، خصوصًا شماله، يجد الاحتلال الإسرائيلي نفسه في موقع اتهام متزايد على الساحة الدولية، لا سيما بعد المجازر المتكررة بحق مدنيين حاولوا الحصول على مساعدات غذائية.
ومن بين هذه الجرائم، برزت مجزرة جديدة وقعت يوم أمس الأحد، في محيط منطقة زكيم شمال القطاع، حيث أُطلِق الرصاص بشكل مباشر من قوات الاحتلال على مدنيين تجمّعوا حول قافلة مساعدات، ما أدى إلى قتل وإصابة العشرات.
لكن بدلًا من الاعتراف بالجريمة، شنّ جيش الاحتلال، عبر أدواته الإعلامية، وعلى رأسها ما يُعرف بشبكة “أفيخاي”، حملة تضليل مكثفة لتبرئة نفسه وتلميع صورته.
ترويج مُمنهج لمقطع “تعليمات عدم إطلاق النار”
المقطع الذي نشره جيش الاحتلال الإسرائيلي ويُظهر ما يزعم أنه “تعليمات للجنود بعدم إطلاق النار على المدنيين المنتظرين للمساعدات”، مثّل حجر الزاوية في حملة ترويج موسّعة عبر منصات التواصل الاجتماعي.
فبمجرد نشره، تلقّفته حسابات مرتبطة بشبكة “أفيخاي أدرعي”، الناطق باسم الجيش الإسرائيلي بالعربية، وهي شبكة واسعة من النشطاء الرقميين والصفحات التي تتقمص أسماء عربية وتستخدم لغة عاطفية تستهدف الرأي العام العربي.
وسريعا انتشر الفيديو على حساب أعضاء شبكة أفيخاي، وغالبًا ما تم الترويج له بمرافقة عبارات مثل “الجيش حريص على المدنيين”، و”إسرائيل لا تطلق النار على الأبرياء”، في محاولة واضحة لإعادة توجيه السردية بعيدًا عن الجريمة الموثقة التي وقعت بالفعل.
غير أن التدقيق في المقطع يكشف أنه مجتزأ ولا يُظهر حقيقة ما جرى على الأرض؛ بل يتجاهل تمامًا حقيقة أن 25 شاحنة مساعدات إنسانية تعرضت لهجوم مباشر عقب دخولها شمال غزة عبر معبر زكيم، وأن جنودًا إسرائيليين أطلقوا النار من دبابات وقناصة على المدنيين المتجمهرين حول القافلة.
ما وراء الفيديو: مجزرة موثقة وشهادات دولية
برنامج الأغذية العالمي، وهو أحد أبرز الهيئات الأممية العاملة في غزة، لم يتردد في كشف ما حصل. فقد أكد بشكل واضح أن:
قافلة مساعدات مكوّنة من 25 شاحنة تعرضت لإطلاق نار إسرائيلي.
مدنيين كانوا ينتظرون المساعدات قُتلوا أو جُرحوا نتيجة إطلاق نار مباشر.
(إسرائيل) كانت قد وعدت بعدم وجود قوات عسكرية على مسارات القافلة، لكنها لم تلتزم.
هذه المعلومات، الصادرة عن جهة دولية محايدة تعمل على الأرض، تدحض بشكل قاطع المزاعم التي روّجت لها ماكينة “أفيخاي” الرقمية، وتؤكد أن المجزرة ليست مجرد حادث عرضي، بل جزء من سياسة ميدانية مستمرة لاستهداف كل ما يمتّ للنجاة بصلة في شمال القطاع المحاصر.
أفيخاي ومنظومة التضليل
شبكة “أفيخاي” لا تقتصر على حسابات الناطق الرسمي، بل تشمل عشرات الأذرع الإعلامية التي تعمل بلغات متعددة، وتتبنّى أسلوب مخاطبة الشعوب العربية بمزيج من العاطفة والتقنيات الرقمية، بهدف ضرب صدقية الإعلام المستقل، وإعادة صياغة الأحداث على النحو الذي يخدم السردية الإسرائيلية.
في هذه الحملة الأخيرة، تمثل النشاط في:
نشر المقطع المجتزأ آلاف المرات على فيسبوك وتويتر وإنستغرام وتيليغرام.
ترويج مقالات وتقارير باللغة العربية تحاول اتهام “الفوضى أو الزحام” بوقوع الإصابات.
محاولة تصوير الشهداء كضحايا “تدافع” أو كـ”ضحايا لنيران مجهولة”.
تحميل منظمات الإغاثة، لا سيما الفلسطينية، المسؤولية بشكل مبطن.
إنها ليست الحملة الأولى من نوعها، بل تأتي ضمن نمط مكرر منذ بداية العدوان، حيث جرى استخدام مقاطع مجتزأة وشهادات مشكوك فيها، وفي بعض الأحيان الاستعانة بـ”خبراء مزيفين” لتبرير أو التشكيك في مجازر موثقة، مثل تلك التي وقعت في الفاخورة أو مستشفى المعمداني.
ويحاول الاحتلال، عبر هذه الحملات، إزاحة التركيز من الجريمة إلى الجدل. فبدلًا من أن يتساءل العالم: من أطلق النار؟ ولماذا قُتل المدنيون؟، تُدفع الجماهير إلى النقاش في: هل فعلاً الجنود تلقوا تعليمات بعدم إطلاق النار؟، ما يُعفي الجاني من الإدانة العاجلة، ويُربك المشهد الحقوقي والسياسي.
لكن الحقيقة تبقى واضحة: عشرات الجثث الهامدة قرب شاحنات الإغاثة لا يمكن محوها عبر فيديو من خمس ثوانٍ، ولا تُبرّرها تعليمات إذا كانت تُطلق في مقر القيادة بينما البنادق تقتل على الأرض.
أزمة متفاقمة وحملة تشويه موازية
الواقع الإنساني في غزة يتدهور بوتيرة غير مسبوقة، وفقًا لتقارير أممية. أزمة الجوع تتوسع، والمجاعة تحاصر مئات آلاف المدنيين، خصوصًا في الشمال. ومع هذا، يُواجه المدنيون الراغبون بالحصول على طحين أو ماء، نيرانًا حقيقية بدلًا من الأمل.
وفي مقابل هذا الرعب، تتحرك آلة دعائية إسرائيلية تُبيّض الجرائم وتُضلل الجمهور. لا يختلف هذا عن سلوك الأنظمة القمعية التي تُجرّم الضحية، وتُعاقب الجائع، وتمنح القاتل شرعية مزعومة.
وبينما شبكة أفيخاي قد تُنجح في تضليل البعض لبعض الوقت، لكنها لن تُغيّب الحقيقة للأبد والمشهد في زكيم لن يمحوه فيديو مجتزأ. فالموت الذي يُوثّق بالدم والكاميرا والحقائق، لا يُمكن شطبه بمنشور فاقد للمصداقية.