إسرائيل في مأزق غزة: حملة “عربات جدعون” بلا أفق

تجد حكومة بنيامين نتنياهو نفسها اليوم عالقة في مأزق مركّب مع إعلانها خطة عسكرية واسعة النطاق في قطاع غزة تحت مسمى “عربات جدعون”، وهي خطة تعكس رغبة في استعادة زمام المبادرة عسكرياً وسياسياً.
لكنها في الوقت ذاته تكشف هشاشة الوضع الداخلي الإسرائيلي، والقيود الاستراتيجية التي فرضها تغير المزاج الدولي، خصوصاً مع إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب.
على الورق، بدا أن العملية ستمنح دولة الاحتلال فرصة جديدة لحسم المعركة مع حركة حماس، من خلال استكمال مشروع التهجير من شمال القطاع وتوسيع رقعة السيطرة العسكرية.
إلا أن الواقع كشف سريعاً أن الأهداف المعلنة أكبر بكثير من القدرة الفعلية على تحقيقها، سواء لأسباب داخلية تتعلق بالجيش والمجتمع، أو خارجية ترتبط بالموقف الأميركي والتحولات الإقليمية.
الأوهام تنهار أمام حسابات ترامب
منذ بداية حرب غزة، ساد في دولة الاحتلال اعتقاد بأن إدارة ترامب ستمنح حكومة نتنياهو غطاءً كاملاً لمتابعة عملياتها دون قيود.
غير أن الأسابيع الأخيرة بددت هذه الأوهام، مع بروز أولويات أميركية متباينة، منها التفاهمات مع إيران، والصفقات مع الحوثيين، والتقارب مع السعودية في ملفها النووي.
وفجأة، وجدت دولة الاحتلال نفسها على الهامش، حيث يجري ترتيب مشهد إقليمي جديد دون إشراكها في القرار.
الأمر لم يتوقف عند استبعاد دولة الاحتلال من أولى زيارات ترامب للمنطقة حتى الآن، بل وصل إلى حدّ فتح قنوات مباشرة بين واشنطن وحماس حول ملف المحتجزين الأميركيين، وهو ما تُرجم بإعلان الحركة عن استعدادها للإفراج عن الأسير عيدان ألكسندر في إطار وساطة أميركية مباشرة.
هذه التحركات أعادت ضبط قواعد الاشتباك، وأظهرت أن نتنياهو لم يعد يمتلك شيكاً مفتوحاً من البيت الأبيض لإدارة حرب غزة على هواه.
تعثّر ميداني ومشروع التهجير في مهبّ الريح
بعد نحو 18 شهراً من الحرب، تبدو حصيلة دولة الاحتلال بعيدة عن الأهداف التي وضعتها لنفسها.
صحيح أن الدمار واسع، وعدد الضحايا في القطاع مرتفع، إلا أن حركة حماس لم تُستأصل، والمقاومة لم تنكسر، والأهم أن مشروع التهجير الذي لوّح به وزير المالية بتسلئيل سموتريتش لم يتحقق سوى جزئياً.
ومع تصاعد الضغوط الدولية وتبدل المزاج الأميركي، بدأت تل أبيب تبحث عن بدائل لهذا المشروع، دون أن تعلن رسمياً عن التراجع عنه.
لكن المعضلة الأبرز تبقى في الإجابة عن سؤال “اليوم التالي”. فالحكومة الإسرائيلية عاجزة عن تقديم رؤية متماسكة لمستقبل غزة بعد انتهاء الحرب.
الاحتلال المباشر مرفوض شعبياً وعسكرياً، وحلول الإدارة المدنية أو الوصاية الدولية تصطدم بعقبات داخلية وخارجية.
هكذا، تدور دولة الاحتلال في حلقة مفرغة، حيث لا تريد البقاء طويلاً في غزة، لكنها في الوقت ذاته ترفض أي تسوية لا تضمن مصالحها الأمنية والسياسية.
الجيش المنهك… وعبء الجبهات المتعددة
الاستعدادات لعملية “عربات جدعون” كشفت عن أزمة حقيقية داخل المؤسسة العسكرية. فالنقص الحاد في عديد القوات، وتراجع تجاوب جنود الاحتياط مع أوامر الاستدعاء، وضعا الجيش في موقف صعب.
وأظهرت دراسة حديثة لجامعة تل أبيب أن نحو 12% من جنود الاحتياط يعانون من أعراض اضطراب ما بعد الصدمة، وهو رقم قياسي يعكس عمق الاستنزاف النفسي والجسدي الذي خلفته الحرب.
إلى جانب ذلك، فإن اتساع رقعة الانتشار العسكري في سورية ولبنان يزيد من الأعباء على الجيش الإسرائيلي، ويقلل من قدرته على تنفيذ عملية واسعة في غزة. أمام هذا الواقع، لجأ رئيس الأركان إيال زامير إلى طرح فكرة تجنيد طلاب المعاهد الدينية (الحريديم) لسد النقص، وهو طرح فجّر أزمة سياسية داخل الائتلاف الحاكم.
قانون التجنيد يشعل أزمة ائتلافية
قرار الجيش المضي في تجنيد الحريديم دون تنسيق مع القيادة السياسية، أشعل فتيل مواجهة جديدة بين المؤسسة العسكرية والأحزاب الدينية، وخصوصاً شاس ويهدوت هتوراه. هذه الأحزاب رأت في القرار تجاوزاً لصلاحيات الحكومة، وهددت بتجميد تعاونها مع نتنياهو في الكنيست.
المحللون الإسرائيليون وصفوا هذه الأزمة بأنها الأخطر منذ بداية الحرب، نظراً لارتباطها بحساسيات اجتماعية عميقة. وفي خطوة احتجاجية، امتنعت الكتل الحريدية عن التصويت لصالح مشروعات القوانين الحكومية، مما أجبر التحالف الحاكم على سحب جدول أعماله التشريعي في بداية الدورة الصيفية.
الاقتصاد تحت ضغط الحرب
الضغوط العسكرية والسياسية تتوازى مع كلفة اقتصادية متزايدة. التقديرات تشير إلى أن تنفيذ خطة “عربات جدعون” سيتطلب إنفاقاً إضافياً يتجاوز 25 مليار شيكل خلال ثلاثة أشهر، ما يستلزم إعادة فتح ميزانية 2025 ورفع سقف العجز المالي إلى مستويات غير مسبوقة.
وإذا أضفنا إلى ذلك كلفة الاحتلال طويل الأمد لغزة، فإن الأعباء المالية ستثقل كاهل الاقتصاد الإسرائيلي بشكل قد يؤدي إلى تقليصات حادة في الخدمات وزيادة الضرائب.
ورغم أن الاقتصاد الإسرائيلي أظهر قدرة نسبية على التكيف مع متطلبات الحرب حتى الآن، إلا أن الاستمرار بهذا النسق يهدد بمفاقمة الأزمات الاجتماعية، في ظل تراجع ثقة الشارع بقدرة الحكومة على إدارة المرحلة.
انهيار رواية “النصر القريب”
على الصعيد الداخلي، بدأت ملامح التفكك تظهر داخل الائتلاف الحاكم. عودة إيتمار بن غفير إلى صفوف الحكومة لم تكن كافية لإعادة الاستقرار، إذ سرعان ما طغت الأزمات الجديدة، من قضية التجنيد إلى تصاعد السخط الشعبي من أداء الحكومة.
في الوقت ذاته، بدأت الرواية الرسمية التي تبشّر بقرب “النصر الحاسم” تتآكل، لتحلّ محلها أجواء من الشك والضبابية. الإعلام الإسرائيلي نفسه، الذي لطالما ردد خطاب الانتصار، أصبح أكثر واقعية في توصيف المأزق العسكري والسياسي الذي تعيشه البلاد.
وفي المحصلة، تبدو دولة الاحتلال عالقة في معادلة معقدة: حملة عسكرية واسعة بلا أفق سياسي واضح، أزمة داخلية متفاقمة، ومجتمع منهك اقتصادياً ونفسياً. أما على المستوى الدولي، فإن تغير المزاج الأميركي يعيد رسم حدود الحركة الإسرائيلية في غزة، وهو ما يضع نتنياهو أمام خيارات محدودة وهامش مناورة يضيق يوماً بعد يوم.
ورغم أن الانهيار الكامل للتحالف الحكومي أو القطيعة مع إدارة ترامب لا يبدوان وشيكين، إلا أن استمرار الأزمات دون حلول ملموسة قد يدفع بالأمور نحو مسارات غير متوقعة، خصوصاً مع تزايد مؤشرات السخط الداخلي وتراجع ثقة الشارع الإسرائيلي بقدرة حكومته على تحقيق أي إنجاز حقيقي في غزة.