معالجات اخبارية

غزة المكان الأكثر جوعا على وجه الأرض

حذرت الأمم المتحدة من أن قطاع غزة أصبح “المكان الأكثر جوعا على وجه الأرض”، في وقت يواجه فيه سكانه البالغ عددهم أكثر من 2.2 مليون نسمة خطر المجاعة الشامل.

والتصريح المروع جاء على لسان ينس ليركه، المتحدث باسم مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا)، مؤكدًا أن 100% من سكان القطاع “معرضون لخطر المجاعة”.

وقال ليركه، خلال مؤتمر صحفي في جنيف، إن غزة أصبحت أول إقليم في العصر الحديث يُصنّف بأكمله على أنه يواجه خطر المجاعة، مضيفًا أن هذه الحالة غير المسبوقة “لا تنطبق على أي مكان آخر في العالم اليوم”.

وأضاف: “لا يوجد مكان على الأرض يُقارن بغزة في مستوى الحرمان والدمار والجوع”.

انهيار منظومة الحياة

منذ اندلاع حرب الإبادة الجماعية في أكتوبر/تشرين الأول 2023، تعرّض قطاع غزة لحصار خانق وهجمات إسرائيلية غير مسبوقة دمّرت البنية التحتية الحيوية، بما في ذلك المستشفيات، وشبكات المياه، ومرافق تخزين الغذاء.

وقد تسبب الحصار الإسرائيلي وتقييد إدخال المساعدات الإنسانية في انهيار كامل لمنظومة الحياة الأساسية، ما أدى إلى تفشي الجوع في كل زاوية من القطاع، من رفح جنوبًا حتى بيت حانون شمالًا.

ويحذر العاملون في المجال الإنساني من أن الوضع تجاوز مرحلة “أزمة غذائية حادة”، وبلغ الآن مستوى كارثيًّا تهدّد فيه المجاعة الحياة اليومية لملايين الأطفال والنساء والمرضى والمسنين.

مساعدات محاصرة

أشار ليركه إلى أن دولة الاحتلال الإسرائيلي سمحت مؤخرًا بدخول حوالي 900 شاحنة محمّلة بالمساعدات الإنسانية إلى غزة، بعد أشهر من الإغلاق شبه الكامل. لكن المفارقة المؤلمة هي أن 600 شاحنة فقط تم تفريغها على الجانب الغزي، بينما لم تصل إلا نسبة أقل من تلك الشحنات إلى أيدي المدنيين.

وشرح المتحدث باسم أوتشا أن الأسباب تتعلّق بـ”قيود أمنية وعملياتية” شديدة، إلى جانب انهيار منظومة التوزيع داخل غزة بسبب التدمير الكامل للمرافق اللوجستية، واستهداف قوافل الإغاثة، وخوف العاملين الإنسانيين من الهجمات.

وقال: “العملية تخضع لقيود تشغيلية تجعلها واحدة من أكثر عمليات المساعدة تعقيدًا في العالم، إن لم تكن في التاريخ الحديث برمّته”.

بين القصف والنهب: المساعدات تتحول إلى مصيدة

واحدة من أكثر الصور المأساوية التي رسمها ليركه في حديثه تتعلق بطريقة توزيع المساعدات. فبمجرد دخول الشاحنات إلى غزة، تصبح “مكتظة بالناس اليائسين” الذين يلاحقونها سيرًا على الأقدام للحصول على ما يمكن إنقاذه.

وأوضح ليركه أن إيصال المساعدات لا يتم بطريقة منسقة وآمنة، بل غالبًا ما يُجبر المدنيون على التجمهر للحصول على الطعام، ليصبحوا أهدافًا مباشرة للغارات أو للناهبين. وأضاف: “إنه أمر يائس ومأساوي ومحبط للغاية، وغير إنساني على الإطلاق”.

في أكثر من مناسبة، وثّقت منظمات حقوقية استهداف طوابير الناس أثناء انتظارهم الحصول على المساعدات، كما حصل في “مجزرة الكرامة” في فبراير/شباط الماضي، عندما استشهد أكثر من 100 شخص أثناء توزيع الطحين شمال القطاع.

مجاعة الأطفال: جوع يفتك بالأضعف

تشير تقارير منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسف) إلى أن الوضع يزداد قتامة بالنسبة للأطفال.

فقد ارتفعت نسب سوء التغذية الحاد بين الأطفال إلى مستويات كارثية، حيث يعاني أكثر من نصف الأطفال تحت سن الخامسة من نقص الوزن الحاد أو الهزال الشديد.

وأُغلِق ما لا يقل عن 21 مركزًا لمعالجة سوء التغذية نتيجة الهجمات الإسرائيلية أو نقص الإمدادات. وفي ظل انعدام الأمن الغذائي الكامل، تحوّل كل يوم يعيشه الطفل في غزة إلى معركة من أجل البقاء، لا من أجل التعليم أو اللعب أو النمو الطبيعي.

غياب المياه والغذاء

إلى جانب الطعام، يعاني سكان غزة من نقص حاد في المياه الصالحة للشرب. فقد دمّرت القوات الإسرائيلية معظم محطات التحلية وشبكات المياه، ما أجبر السكان على شرب مياه ملوثة أدت إلى تفشي أمراض معوية والتهابات قاتلة، خاصة لدى الأطفال.

كما أدى تدمير مزارع الدواجن والمواشي والأراضي الزراعية إلى اختفاء المواد الغذائية الأساسية، بينما ارتفعت أسعار ما تبقى من سلع إلى مستويات تفوق قدرة الناس على شرائها. البيض، الخبز، الحليب، وحتى الملح – أصبحت كلها مواد نادرة. وفي بعض المناطق، يلجأ السكان إلى غلي الأعشاب أو طحن الأعلاف لإعداد ما يسد الرمق.

نظام تجويع ممنهج؟

يرى خبراء حقوق الإنسان أن ما يجري في غزة لا يمكن اعتباره فشلًا في الإغاثة فقط، بل هو “نظام تجويع ممنهج”، تستخدمه دولة الاحتلال كأداة حرب لإخضاع السكان.

وقالت فرانشيسكا ألبانيز، المقررة الخاصة المعنية بحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية، إن “إسرائيل تستخدم المجاعة كسلاح”، مؤكدة أن ذلك “يرقى إلى جريمة حرب”.

وقد دعت منظمات دولية إلى فتح ممرات إنسانية آمنة ومستدامة، وإلى الضغط الدولي على إسرائيل لوقف حصارها وتجريم سياساتها التي تنتهك القانون الدولي الإنساني بشكل صارخ.

انهيار المؤسسات وغياب الحماية

منذ بداية الحرب، استشهد أكثر من 250 عاملًا في المجال الإنساني في غزة، معظمهم من موظفي الأونروا، وهو أعلى عدد يُسجل في صراع واحد منذ تأسيس المنظمة. وقد أدى ذلك إلى شلل شبه كامل في قدرة المؤسسات الإنسانية على العمل.

كما أن غياب السلطة الفلسطينية عن القطاع، وتجاهل المجتمع الدولي لمطالبة الفلسطينيين بحماية دولية حقيقية، جعل السكان في مواجهة مباشرة مع الكارثة دون غطاء سياسي أو إنساني.

في ختام مؤتمره، وجّه ليركه نداءً أخيرًا باسم الأمم المتحدة إلى المجتمع الدولي، مطالبًا بخطوات عاجلة وجادة لتفادي المجاعة الكاملة. وقال: “الوضع لا يمكن أن يستمر. الناس لا يحتاجون فقط إلى الطعام، بل إلى الكرامة، إلى الأمان، إلى الحياة”.

وفي غزة، حيث يتحوّل الخبز إلى حلم، والماء إلى أمنية، والطفولة إلى ذكرى، تبدو المجاعة اليوم وجهًا آخر من وجوه الحرب – حرب تُشن على الأمل ذاته.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى