تحليلات واراء

هل يخطط عباس لاستكمال هندسة النظام السياسي بلون واحد؟

في خطوة تفتقد لأي توافق وطني، أصدر رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس مرسومًا رئاسيًا قبل أيام يُعلن فيه الشروع في إجراء انتخابات المجلس الوطني الفلسطيني قبل نهاية العام 2025، ما أثار مخاوف مخطط لاستكمال هندسة النظام السياسي وتوليفة منظمة التحرير بلون واحد.

إذ أن صدور مرسوم عباس تم من دون أي تشاور مع الفصائل الوطنية والإسلامية أو مؤسسات منظمة التحرير أو حتى مع ممثلي المجتمع المدني والشتات، وهو ما يُنذر بتعميق المأزق السياسي الفلسطيني بدل المساهمة في حله، ويطرح تساؤلات جوهرية حول النوايا الفعلية الكامنة وراء هذه الخطوة.

المجلس الوطني… تجديد أم إعادة تدوير؟

يعد المجلس الوطني الفلسطيني الهيئة التشريعية العليا لمنظمة التحرير، ومن المفترض أن يتكون من 350 عضوًا، يُمثل ثلثاهم الداخل الفلسطيني (الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس)، فيما يُمثل الثلث الآخر الشتات الفلسطيني حول العالم.

لكن، ما يغيب عن هذا التصميم الظاهري هو حقيقة أن المرسوم فُصّل سياسيًا وإجرائيًا بما يسمح بإعادة إنتاج بنية سياسية مهيمنة، بدل بناء إطار وطني شامل.

ويبرز المحلل السياسي من رام الله هاني المصري، أن الشرط الذي تضمّنه مرسوم عباس، والذي يُلزم جميع المشاركين في الانتخابات بـ”الالتزام ببرنامج منظمة التحرير الفلسطينية، والتزاماتها الدولية وقرارات الشرعية الدولية”، يُعدّ انقلابًا على جوهر العملية الديمقراطية.

ويشير المصري إلى أن هذا الشرط لا يُراعي تعددية البرامج السياسية، بل يُقصي مسبقًا أي قوى لا تتبنى مسار التسوية السياسية ونهج أوسلو، ويفرض سقفًا سياسيًا ضيّقًا لا يتماشى مع روح الوحدة الوطنية ولا مع الميثاق الوطني الذي يجمع مختلف مكونات الشعب الفلسطيني.

تجاهل الأولويات الوطنية… وتغليب الحسابات السلطوية

من ناحية التوقيت، يأتي المرسوم في ذروة حرب الإبادة المستمرة على قطاع غزة، وسط مشاهد لمجاعة تُهدّد مئات الآلاف، وتدمير ممنهج للبنية التحتية، وعمليات تهجير لا تقل بشاعة عن النكبة. كما تشهد الضفة الغربية ضمًا زاحفًا واستيطانًا متسارعًا، في ظل انهيار ما تبقى من حل الدولتين وتغوّل الاحتلال.

ورغم كل هذه التحديات، اختار عباس تجاهل الأولويات الوطنية العاجلة، ولم يطرح أي رؤية لوقف العدوان، أو إعادة الإعمار، أو مواجهة مخططات التهجير والضم، أو حتى تشكيل قيادة موحدة تتعامل مع هذه التحديات الخطيرة.

بل على العكس، يبدو أن المرسوم ينطلق من حسابات سياسية ضيقة هدفها إعادة ترميم شرعية فقدت منذ سنوات طويلة، من دون أن يمرّ ذلك عبر المسار الوطني الصحيح، أي الحوار والتوافق الشامل.

منظمة التحرير فوق السلطة دون إصلاح

المفارقة أن المرسوم يتحدث فقط عن انتخابات المجلس الوطني، دون الإشارة إلى استحقاقات الرئاسة أو المجلس التشريعي أو بقية مكونات السلطة الفلسطينية، في إشارة واضحة إلى رغبة القيادة في إعادة تمركز السلطة داخل المنظمة – أو على الأصح داخل مؤسسة الرئاسة – من دون إعادة بنائها.

هذا التوجه ينذر بتكريس خلل بنيوي خطير: فالمنظمة نفسها مشلولة منذ سنوات، ولم تُفعَّل مؤسساتها بشكل حقيقي، لا المجلس المركزي ولا التنفيذي، في ظل تغوّل مؤسسة الرئاسة على كل المؤسسات، وتعطيل الحوار الوطني، وتجميد الانتخابات التشريعية والرئاسية منذ 2006.

وبدلاً من إصلاح المنظمة وإعادة هيكلتها لتكون مظلة جامعة لكل مكونات الطيف الفلسطيني، يبدو أن القيادة تُحاول هندسة “منظمة تحرير بلون واحد”، بحيث تُقصى فيها القوى الإسلامية الكبرى كحماس والجهاد، ولا يُفتح فيها المجال أمام الشخصيات الوطنية والمستقلة أو الشتات للمشاركة بحرية.

ماذا عن غزة؟ وعن شرعية التمثيل؟

لا بد من التوقف عند سؤال محوري: كيف يُمكن إجراء انتخابات في قطاع غزة وهو يُعاني من دمار شامل؟ ومن سيضمن حرية الاقتراع والتنظيم في الضفة الغربية في ظل الاجتياحات المتكررة والاعتقالات اليومية؟ ومن يضمن ألا تتحول العملية إلى مجرد تمرين نخبوي يجري في قاعات مغلقة، أو في بعض السفارات، تحت عناوين فضفاضة وشكلية؟

أي انتخابات لا تتم في إطار وطني جامع، ولا تشمل الأرض المحتلة والشتات، ولا تُبنى على توافق وطني حقيقي، لن تُنتج إلا مزيدًا من الانقسام، وتُكرّس واقع الهيمنة بدل إنهائه.

وعليه فإن الرسالة الواضحة من المرسوم أن قيادة السلطة تُحاول استعادة دورها على الساحة الفلسطينية، بعد سنوات من التراجع والجمود والعزلة الداخلية والخارجية.

لكن بدل أن تسلك قيادة السلطة الطريق الصحيح عبر المصالحة، والشراكة، وتشكيل حكومة وحدة وطنية، وبناء استراتيجية نضالية جامعة؛ ها هي تسلك مسارًا منفردًا، يقود إلى شرذمة أكبر.

ويؤكد مراقبون أن محاولة اختزال المشهد الفلسطيني ضمن أدوات إدارية وانتخابية محدودة، لا تُغيّر من الواقع شيئًا والمطلوب وطنيا ليس انتخابات شكلية تحت سطوة الاحتلال والانقسام، بل ثورة إصلاح سياسي حقيقية تبدأ بإعادة بناء منظمة التحرير نفسها، وتُنهي الانفراد، وتُعيد القرار للشعب.

وبحسب المراقبين فإن استكمال هندسة النظام السياسي بلون واحد، وتفصيل منظمة التحرير على مقاس قيادة السلطة، لن يُعيد الشرعية، بل يُفقد ما تبقى منها. وإذا لم تُبادر تلك القيادة إلى مراجعة شاملة، فإن اللحظة القادمة قد لا تمنحها فرصة أخرى.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى