تحليلات واراء

الإنزالات الجوية.. مكياج إسرائيلي على قباحة تجويع غزة باستخدام أدوات عربية

منذ أيام، عاد الحديث عن “الإنزالات الجوية” للمساعدات فوق قطاع غزة ليتصدر المشهد الإنساني المأزوم، وهذه المرة مدفوعًا بمحادثات سرية تُعقد في القاهرة والدوحة بمشاركة الولايات المتحدة والحكومة الإسرائيلية وعدد من الدول العربية التي تربطها علاقات تطبيع مع تل أبيب، بينها الإمارات ومصر والأردن.

ووفق مصادر دبلوماسية، فإن هذه المشاورات تهدف إلى تنظيم عمليات إنزال جديدة لمواد غذائية في محاولة لتخفيف الضغوط المتزايدة على الحكومة الإسرائيلية في ظل تفاقم المجاعة في القطاع المحاصر.

لكن واقع الأمر أن هذه الإنزالات ليست سوى عملية تجميل إعلامي تهدف لتلميع صورة دولة الاحتلال التي تتحمل المسؤولية الأساسية عن تجويع الفلسطينيين في غزة، عبر سيطرتها الصارمة على المعابر البرية ومنعها دخول المواد الإغاثية بالكمية الكافية.

والأسوأ من ذلك، أن هذه الحملة التجميلية تتم بمشاركة أنظمة عربية تدّعي الحرص على الشعب الفلسطيني، بينما تشارك عمليًا في إدارة المجاعة التي يواجهها.

محادثات برعاية أمريكية.. ولكن بأي هدف؟

تشير المعلومات المسربة إلى أن المحادثات التي بدأت الأحد 20 يوليو في القاهرة والدوحة تضم ممثلين من دولة الاحتلال والولايات المتحدة إلى جانب مسؤولي الأمن والإغاثة في مصر، الإمارات، والأردن.

وفيما يسوّق البعض هذه الخطوة على أنها محاولة عربية لإيجاد حلول إنسانية بعيدًا عن التعقيدات السياسية، فإن قراءة متأنية تكشف العكس تمامًا: هناك سعي أمريكي لتوفير مخرج شكلي للحكومة الإسرائيلية من ضغط المجتمع الدولي المتصاعد، في وقت تتعالى فيه الأصوات المطالبة بفتح المعابر البرية وإيقاف سياسة التجويع الجماعي.

الولايات المتحدة، التي تدعي أنها “حامية المبادئ الإنسانية”، تعلم جيدًا أن المعابر البرية هي الخيار الوحيد الحقيقي لضمان وصول منتظم وآمن وفعّال للمساعدات.

لكنها – بدلًا من الضغط الفعلي على تل أبيب – تدفع نحو حلول رمزية مثل الإنزالات الجوية، وتطلب من الدول العربية أن تتحمل دور “المنفّذ” في هذه المسرحية الإنسانية المضلّلة.

التجربة السابقة: إنزال فاشل ودماء مدنية

عمليات الإنزال الجوي التي نفذتها عدة دول خلال عامي 2023 و2024 أثبتت فشلها الذريع.

وأظهرت عشرات الحالات الموثقة أن طرود المساعدات لم تصل لمستحقيها، بل وقعت في أماكن عشوائية، بعضها في مناطق سيطرة إسرائيلية، وبعضها الآخر فوق رؤوس العائلات النازحة، مما أدى إلى قتل وإصابة عدد من المدنيين الفلسطينيين، بينهم أطفال.

فأي منطق يمكن أن يُقنع العالم بأن إسقاط صندوق معلبات من طائرة على رؤوس الجياع هو “نجدة إنسانية”؟ وأي كرامة تُبقى للشعوب عندما تُحوّل الأنظمة العربية سماء غزة إلى منصة دعائية بدلاً من الضغط السياسي لفتح الأرض المحاصرة؟

“الإنزال” ليس حلاً.. بل شراكة في الحصار

إذا كان الحصار خنجرًا في خاصرة غزة، فإن الإنزالات الجوية هي القماش المزركش الذي يُغطي الجرح دون تطهيره، بل وربما يزيده التهابا.

المساعدات المسقطة من الجو، مهما كانت نواياها، تظل وسيلة غير مجدية ولا تسمن ولا تغني من جوع، خاصة في ظل الأرقام المفزعة الصادرة عن منظمات الأمم المتحدة التي تشير إلى أن أكثر من 90% من سكان غزة يعانون من انعدام الأمن الغذائي، وأن مئات الأطفال مهددون بالموت بسبب الجوع الحاد.

وبدلًا من أن تُشكّل الدول العربية أداة ضغط سياسي على إسرائيل، اختارت بعض العواصم أن تتحول إلى أدوات لوجستية تُنفّذ ما تمليه واشنطن وتل أبيب تحت مسمى “الإنقاذ الجوي”. هذا التورط ليس محايدًا، بل يُعد شراكة ضمنية في إدارة الحصار، بل وتجميله أمام الكاميرات.

تطبيع المجاعة؟

المفارقة أن الدول نفسها التي تشارك في هذه العمليات هي جزء من منظومة التطبيع العربي مع إسرائيل، والتي لطالما روجت لنفسها على أنها جسور للسلام والاستقرار في المنطقة.

لكنها أصبحت اليوم تشارك في ترسيخ واحدة من أسوأ الكوارث الإنسانية في القرن الحادي والعشرين، من خلال التواطؤ أو الصمت، وأحيانًا بالتنفيذ المباشر لسياسات لا إنسانية.

لم يعد بإمكان أحد أن يبرر الصمت أو المواقف الرمادية. فالإنزال الجوي، بصيغته الحالية، ليس سوى “مكياج” على قباحة التجويع الجماعي، وغطاء إعلامي لتفادي فتح المعابر وإدخال المواد الأساسية من طحين وأدوية ووقود عبر الطرق البرية، كما تنص عليه قواعد القانون الدولي الإنساني.

الحل الحقيقي: كسر الحصار لا إسقاط صناديق

ما تحتاجه غزة ليس طائرات تُحلّق فوقها، بل مواقف قوية إلى جانبها. ليس إسقاط طرود غذائية، بل كسر الحصار الشامل المفروض عليها منذ سنوات، والذي تضاعف في وحشيته بعد أكتوبر 2023. لا معنى لأي مبادرة إغاثية لا تبدأ بفتح المعابر وإدخال المساعدات بشكل منتظم وتحت إشراف أممي.

المطلوب اليوم أن تقف الدول العربية، لا سيما تلك التي وقعت اتفاقات تطبيع، في وجه سياسة التجويع لا أن تصبح جزءًا منها.

كما أن المطلوب موقف سيادي أخلاقي يرفض أن يُستخدم الحصار كسلاح، وأن تُستبدل الكاميرات والمسكنات الجوية بحلول جذرية تعيد للشعب الفلسطيني حقه في الحياة والكرامة والغذاء.

وإلا، فإن كل صندوق يُسقط من السماء سيكون شاهدًا جديدًا على تواطؤ الصامتين، ومرآة تعكس الوجه الحقيقي لأولئك الذين اختاروا لعب دور المساعد في جريمة التجويع، بدلًا من أن يكونوا صوتًا لكسر القيود.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى