معالجات اخبارية

شخصيات عامة إسرائيلية تدعو لفرض عقوبات دولية على إسرائيل بسبب تجويع غزة

انقسام أخلاقي يتعمق

في خطوة غير مسبوقة تعكس تصدّعًا متزايدًا في الموقف الأخلاقي داخل المجتمع الإسرائيلي، أصدرت مجموعة من 31 شخصية عامة إسرائيلية رسالة مفتوحة دعت فيها إلى فرض “عقوبات معوّقة” على إسرائيل، بسبب سياساتها “الوحشية” في قطاع غزة، لا سيما استخدام التجويع كسلاح في الحرب المستمرة منذ 21 شهرًا.

الرسالة التي نُشرت في صحيفة الغارديان البريطانية ووقّعها مثقفون وفنانون وأكاديميون ومسؤولون سابقون، مثل الحائز على الأوسكار يوفال أبراهام، والمدعي العام الأسبق مايكل بن يائير، ورئيس الكنيست السابق أبراهام بورغ، وصفت الوضع في غزة بأنه “كارثة إنسانية مصنوعة”، ودعت إلى وقف إطلاق نار دائم وفرض عقوبات دولية على حكومة بنيامين نتنياهو.

صرخة من داخل المؤسسة الثقافية الإسرائيلية

أن تأتي هذه الدعوة من داخل دولة الاحتلال، ومن رموز نالت أوسمة الدولة العليا كـ”جائزة إسرائيل”، يجعلها غير اعتيادية وخارقة للمحرمات.

فقد طالما قادت المؤسسة السياسية الإسرائيلية حملات لسن قوانين وتجريم الدعوات لفرض عقوبات دولية على الدولة، وشيطنة حملة “BDS” واتهام من يساندها بـ”العداء للسامية”.

لكن اليوم، تنطلق دعوة كهذه من شخصيات تُعتبر ركيزة في النسيج الثقافي والأكاديمي الإسرائيلي، ما يشكل ضربة أخلاقية غير مسبوقة للخطاب الرسمي.

مجاعة غزة: حقيقة لا يمكن إخفاؤها بعد الآن

تأتي هذه الرسالة في وقت تشير فيه تقارير دولية إلى أن أكثر من نصف سكان قطاع غزة، البالغ عددهم أكثر من 2 مليون نسمة، يعانون من جوع حاد.

وبحسب وزارة الصحة في غزة، فقد تجاوز عدد الضحايا 60 ألفًا منذ بداية الحرب، بينما ارتفعت الوفيات بسبب الجوع وسوء التغذية، خاصة بين الأطفال.

الصور المنتشرة لأطفال هزيلين، وطوابير الناس المنتظرين أمام شاحنات المساعدات، إضافة إلى تقارير موثقة عن إطلاق قوات الاحتلال النار على الفلسطينيين أثناء محاولتهم الوصول إلى الطعام، أثارت غضبًا عالميًا متزايدًا.

وحتى داخل دولة الاحتلال، لم تعد الصورة قادرة على الصمود أمام الحقيقة الدامغة: ما يجري في غزة يتجاوز الحرب، ويدخل في نطاق التجويع المتعمّد كأداة للضغط السياسي والعسكري.

رسالة تتحدى الرواية الرسمية

في إحدى أقوى فقرات الرسالة، اتهم الموقعون الحكومة الإسرائيلية بـ”تجويع شعب غزة حتى الموت، والتفكير في الإزالة القسرية لملايين الفلسطينيين”، في إشارة إلى المقترحات المتكررة بإقامة مناطق عازلة أو “مدن إنسانية” في رفح أو سيناء.

هذا الاتهام لم يعد مقتصرًا على أصوات فلسطينية أو دولية، بل بات يتردد بين أوساط إسرائيلية بارزة، كما حدث مع رئيس الوزراء الأسبق إيهود أولمرت الذي وصف مدينة رفح المقترحة بـ”معسكر اعتقال”، محذرًا من أنها تُمثّل تطهيرًا عرقيًا محتملاً.

وليس من قبيل المصادفة أن تتزامن الرسالة مع تقارير حقوقية أصدرتها منظمتان إسرائيليتان بارزتان، بتسيلم وأطباء من أجل حقوق الإنسان في دولة الاحتلال، لأول مرة تصف سياسات الحكومة الإسرائيلية في غزة بأنها “إبادة جماعية”.

تحوّل في موقف اليهود الليبراليين عالميًا

تجاوزت أصداء الرسالة حدود دولة الاحتلال، لتصيب نواة الحاضنة اليهودية الليبرالية في الولايات المتحدة بالاهتزاز.

فقد أصدرت الحركة الإصلاحية اليهودية – وهي الأكبر في أميركا – بيانًا علنيًا اتهمت فيه الحكومة الإسرائيلية بأنها “مسؤولة عن المجاعة المتفشية في غزة”، مؤكدة أن “المعاناة الإنسانية لا يمكن تبريرها تحت أي ذريعة أمنية”.

هذا التبدّل يضعف الرواية الإسرائيلية الرسمية التي لطالما روجت أن “حماس تحتجز المساعدات”، أو أن “الاحتلال ليس مسؤولًا عن المجاعة”، وهو ما تنفيه آلية الأمم المتحدة لمراقبة الأمن الغذائي، التي وثقت بأدلة بياناتية أن سياسات الإغلاق ومنع الإمدادات هي العامل الرئيسي وراء المجاعة في غزة.

انقسام داخلي متزايد: هل ينهار الإجماع الصهيوني؟

تؤكد الرسالة على وجود انقسام عميق في الداخل الإسرائيلي، ليس فقط على المستوى السياسي، بل الأخلاقي أيضًا.

فعلى الرغم من الهيمنة اليمينية المتطرفة على الحكومة، إلا أن الأصوات المعارضة بدأت تتجاوز السقف المعتاد، وتصل إلى حدود غير مسبوقة في نقد الذات، والمطالبة بتدخل خارجي.

وهذا يمثل تآكلاً واضحًا في “الإجماع الصهيوني”، الذي طالما رفض أي تدخل خارجي أو فرض عقوبات، بحجة “حق الدفاع عن النفس”.

اليوم، نجد أصواتًا من داخل دولة الاحتلال تطالب بأن “لا يعمينا حبنا لإسرائيل عن صرخات المستضعفين”، وأن “ننهض لمستوى التحدي الأخلاقي في هذه اللحظة”.

إنكار متواصل وأكاذيب ممنهجة

رغم هذه الدعوات، يواصل رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو وانصاره إنكار وجود مجاعة في غزة. بل إنهم يتعاملون مع التقارير الدولية على أنها “حملة تشويه” مدفوعة من اليسار أو من منظمات “معادية لإسرائيل”.

وتكررت محاولات نشر صور محدودة لوصول بعض المساعدات أو سلع فاخرة نادرة في غزة لتبرير أن “لا مجاعة هناك”، في تناقض فج مع الوقائع اليومية للمدنيين المحاصرين.

وقد لا تغيّر هذه الرسالة في مسار الحرب أو سياسات الحكومة المتطرفة، لكنها تمثّل لحظة فارقة في التاريخ الأخلاقي للمجتمع الإسرائيلي، إذ تكشف أن هناك من يرفض التواطؤ أو الصمت، حتى من داخل المنظومة الثقافية والفكرية ذاتها.

في وقت تتساقط فيه أقنعة كثيرة عن وجه الاحتلال، يعلو صوت قلة شجاعة تقول: “العقوبة الأخلاقية يجب أن تبدأ من الداخل قبل الخارج. لا أحد ينجو من مسؤولية تجويع الناس، حتى لو لبس عباءة الضحية”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى