نشأت الديهي فوق غزة: حين يتباكى النظام المصري على أطلال جريمته

في مشهد محكم الإخراج ومشحون بالرمزية الإعلامية، ظهر الإعلامي المصري المقرّب من الأجهزة الأمنية نشأت الديهي على متن طائرة عسكرية مصرية ضمن ما سُمّي بـ”الجسر الجوي المصري لإنزال المساعدات إلى غزة”.
ومن على ارتفاع آلاف الأقدام فوق مدينة تموت ببطء تحت الحصار والمجاعة والقصف، لم يجد الديهي وصفًا أكثر تأثيرًا من قوله: “غزة تبدو كأنها مدينة أشباح… هذا أقسى مشهد يمكن أن تراه العين”.
لكن ما لم يقله الديهي – وربما ما طُلب منه ألّا يقوله – هو أن اليد التي ترمي الخبز من الجو، هي ذاتها التي تغلق الأرض والمعابر والأنفاس.
فالمشهد الذي رآه من الأعلى، بكل ما فيه من موت وخراب وتجويع، ليس قدرًا إلهيًا نزل من السماء، بل نتيجة مباشرة لحصار خانق، شاركت فيه القاهرة بفعالية منذ سنوات، وبلغ ذروته مع الإغلاق الكامل لمعبر رفح منذ بداية الحرب الأخيرة في أكتوبر 2023.
البكاء فوق الركام… بدل فتح المعبر
لم تكن رحلة الديهي مجرد تغطية إعلامية لحدث إنساني، بل كانت رسالة مدروسة بعناية من النظام المصري، مفادها أن مصر “تفعل ما بوسعها”، وأنها “ليست طرفًا في الكارثة”. ولكن الواقع مختلف تمامًا.
فبينما كانت طائرات مصر تنثر القليل من المعونات فوق ركام المنازل والمخيمات، كان معبر رفح، شريان الحياة البري الوحيد الذي لا تتحكم فيه إسرائيل، مغلقًا، وكانت مصر ترفض حتى السماح بدخول فرق الإغاثة الدولية أو المصابين للعلاج.
إن مشاركة الديهي – الذي يُعرف بمواقفه الداعمة بالكامل للنظام، وهجومه الدائم على فصائل المقاومة – لا يمكن قراءتها إلا كجزء من حملة مدروسة لتجميل الدور المصري، وامتصاص موجة الغضب الشعبي والعربي والدولي من التواطؤ المكشوف في حصار غزة.
معادلة الاستسلام: عندما يصبح الصمت خيانة
ما يفعله النظام المصري عبر أبواقه الإعلامية هو ترويج معادلة خبيثة ومضللة: أن المقاومة مكلفة، وأن القبول بالأمر الواقع أقل ثمنًا من المواجهة.
لذا، فإن دموع الديهي التي ذرفها من الجو على “مدينة الأشباح”، ما هي إلا جزء من محاولة إعادة صياغة وعي الجمهور العربي، والفلسطيني تحديدًا، باتجاه تقبل فكرة أن “الاستسلام أفضل من الإبادة”.
هذه المعادلة ليست جديدة، بل هي امتداد لنهج سياسي إقليمي تقوده أنظمة عربية ترى في المقاومة خطرًا على استقرارها الداخلي أكثر من كونها مشروع تحرير وطني.
لكن في السياق الفلسطيني – ومع ما يحدث في غزة اليوم من مجاعة منظمة وتجويع منهجي للسكان كأداة حرب – فإن هذه المعادلة تتحول إلى تبرير مباشر للجريمة، بل شراكة فيها.
تبرير الفشل… وتطبيع الغدر
حين يقول الديهي إن “هذا أقصى ما يمكننا فعله”، فإنه لا ينقل الحقيقة، بل يردد خطابًا رسميا يهدف لتبرير فشل مصر في أداء دورها التاريخي كحاضنة وداعمة للقضية الفلسطينية.
والحقيقة أن مصر يمكنها أن تفعل الكثير: يمكنها فتح معبر رفح دون إذن من أحد، ويمكنها أن تضغط دوليًا باسم الجغرافيا والتاريخ، ويمكنها أن تنهي التواطؤ الميداني مع الحصار الإسرائيلي، لكنها لا تفعل.
والأخطر من ذلك، أن النظام المصري يحاول الآن أن يُحمّل فصائل المقاومة، لا سيما حماس، مسؤولية الدمار والجوع، وكأن الاحتلال اختفى، وكأنّ ما يحدث في غزة ليس حملة إبادة بل “نتيجة مغامرات غير محسوبة”، على حد تعبير الكثير من الأبواق الإعلامية الرسمية.
امتصاص الغضب… وصناعة صورة مزيفة
الهدف من إرسال الديهي، وتوثيق لحظته الإنسانية من الجو، ليس فقط التغطية أو الإغاثة، بل إنتاج صورة إعلامية موجهة إلى الداخل المصري والعربي. صورة تقول: نحن نبكي على غزة، نحن نحاول مساعدتها، نحن لسنا شركاء في الحصار.
لكن هذه الصورة، مهما كانت احترافية الإخراج، لا تصمد أمام الحقائق الصارخة: مئات الأطفال الذين ماتوا جوعًا، آلاف المرضى الذين لا يجدون علاجًا، ومدينة تُقصف من البحر والجو بينما تُغلق في وجهها الأبواب البرية من الجنوب.
ازدواجية فجّة… وسقوط أخلاقي
إن ما يكشفه ظهور الديهي في هذا التوقيت هو عمق التناقض بين الخطاب الإعلامي المصري وبين السلوك السياسي والأمني على الأرض.
ففي الوقت الذي يُطل فيه من الجو ليبكي على غزة، تقوم أجهزة الدولة بتضييق الخناق على كل مبادرة شعبية لدعم الفلسطينيين، وتمنع التظاهر، وتراقب أي نشاط تضامني.
كما أن هذا التحرك الإعلامي يتزامن مع تصاعد الخطاب الرسمي الذي يُحمّل الفلسطينيين أنفسهم مسؤولية ما يجري، ويشكك في أرقام الضحايا، ويتبنى ضمنيًا الرواية الإسرائيلية بشأن “الضربات الدقيقة” و”الردود على الهجمات”.
بين الدعاية والمأساة: من المستفيد؟
في نهاية المطاف، يمكن القول إن مشاركة نشأت الديهي في عملية الإنزال الجوي ليست إلا فصلاً جديدًا من فصول البروباغندا المصرية الهادفة إلى غسل اليد من الدم الفلسطيني، عبر البكاء على الجثث بدل إنقاذ الأحياء.
هي محاولة لتضليل الوعي العربي، وإقناع الفلسطينيين أن خيار المقاومة هو الذي جلب لهم الموت، لا الاحتلال. وهي رسالة تقول: لا ترفعوا رؤوسكم، لأن الثمن سيكون أشلاءكم.
لكن التاريخ – كما غزة – لا ينسى، وسيسجل أن من ألقى كيس أرز من الجو، هو نفسه من أغلق الباب في وجه الخبز والدواء. وأن من بكى أمام الكاميرا، هو نفسه من أدار ظهره لمأساة تُرتكب أمام العالم بصمت عربي مريب.