معالجات اخبارية

لقطات مفبركة وجوع مستمر: الدعاية الإسرائيلية تحاول تزوير حقيقة المجاعة في غزة

بينما يتساقط المدنيون جوعاً في قطاع غزة تحت حصار شامل وقيود خانقة على دخول المساعدات، تكثف دولة الاحتلال الإسرائيلي حملتها الدعائية لترويج رواية مغايرة تماماً للواقع عبر لقطات مفبركة.

فمع تفاقم الكارثة الإنسانية واتساع رقعة المجاعة، باتت ماكينة الدعاية الإسرائيلية تنشر تقارير ومقاطع مصوّرة “مزيفة ومنتقاة بعناية” تُظهر توزيع مساعدات غذائية “وافرة”، بهدف خداع الرأي العام العالمي والتغطية على الجريمة المستمرة بحق أكثر من مليوني إنسان.

الموت جوعاً… أمام كاميرات تنكر المأساة

أعلنت وزارة الصحة في غزة اليوم عن وفاة أربعة فلسطينيين جدد بسبب الجوع وسوء التغذية، لترتفع حصيلة الضحايا إلى 197 شهيداً منذ بداية العدوان الإسرائيلي في أكتوبر 2023، بينهم 96 طفلاً.

هذه الأرقام، التي وثقتها وزارة الصحة والمراكز الطبية الميدانية، تؤكد أن المجاعة لم تعد خطرًا مستقبليًا، بل واقعًا يوميًا.

ومع ذلك، تصر وسائل الإعلام الإسرائيلية – بدعم مباشر من الجيش والدوائر الرسمية – على نشر مشاهد دعائية توحي بأن المساعدات تصل بانتظام إلى السكان، وأن الوضع الإنساني “قيد التحسن”.

ويُظهر عدد من المقاطع جنودًا إسرائيليين يلقون صناديق معونة على أطراف المناطق الحدودية، أو لقطات من عمليات إنزال جوي بالتعاون مع بعض الدول، دون أن توضح أين تذهب تلك المساعدات، ومن يتسلمها، وما مدى كفايتها.

الفجوة الصارخة بين الواقع والصورة

تتناقض الادعاءات الإسرائيلية بشكل صارخ مع الأرقام الدقيقة الصادرة عن الجهات المختصة في غزة.

فمنذ إعلان قوات الاحتلال في 27 يوليو 2025 عن “تسهيلات إنسانية”، دخل القطاع فقط 853 شاحنة مساعدات خلال 10 أيام، أي بمعدل 85 شاحنة يوميًا.

وهذا الرقم يُمثل 14% فقط من الحد الأدنى اللازم، إذ يحتاج القطاع إلى 600 شاحنة يومياً من الغذاء والماء والوقود والمستلزمات الطبية لتأمين الحد الأدنى من الاحتياجات.

ويوضح المكتب الإعلامي الحكومي في غزة أن هذه الكميات المحدودة يتم تنقيطها بطريقة مقصودة، وتُمنع من الوصول إلى المناطق الأشد تضرراً، خاصة شمال القطاع، حيث تُسجَّل أعلى معدلات الوفاة بالجوع.

كما أن دولة الاحتلال تمنع دخول مساعدات حرجة مثل الوقود اللازم لتشغيل المستشفيات ومحطات تحلية المياه.

التلاعب للتغطية على الجريمة

يأتي نشر هذه المواد الترويجية في إطار استراتيجية دعائية إسرائيلية متكاملة، تهدف إلى تحييد الرأي العام العالمي، وتخفيف الضغوط الدولية، وإقناع الشعوب الغربية بأن تل أبيب تؤدي “واجبها الإنساني”.

ويتم التركيز على مشاهد درامية لمساعدات تُرمى جواً أو تُسلم لمجموعات صغيرة من المدنيين، في مشهد أقرب إلى “استعراض إنساني” منه إلى عمل إغاثي حقيقي.

غير أن هذه المشاهد لا تصمد أمام تقارير الأمم المتحدة ومنظمات الإغاثة، التي أكدت مراراً أن ما يدخل إلى غزة لا يلبي حتى جزءًا ضئيلاً من الاحتياجات المتراكمة.

وأشار برنامج الأغذية العالمي مؤخرًا إلى أن “السيناريو الأسوأ للمجاعة بات واقعاً في غزة”، محذراً من انتشار سوء التغذية الحاد بين الأطفال وذوي الأمراض المزمنة.

الأكاذيب التي لا تغطي الجثث

من خلال هذه الدعاية، تحاول دولة الاحتلال نقل المعركة إلى الفضاء الإعلامي، بعد أن فقدت السيطرة الأخلاقية أمام الرأي العام العالمي.

فقد بدأت تتزايد الانتقادات الغربية للحرب، مع تراجع كبير في شعبية تل أبيب داخل الولايات المتحدة وأوروبا، لا سيما بعد نشر صور الأطفال الذين يموتون جوعاً في أحضان أمهاتهم، وسط أنقاض المستشفيات والمدارس.

ويبدو أن هذه الخسارة الإعلامية دفعت تل أبيب إلى التكثيف غير المسبوق لعمليات التضليل، بما في ذلك استخدام حسابات مزيفة على مواقع التواصل لنشر شهادات ملفقة، والتعاون مع قنوات أجنبية وإقليمية لتصوير “مشاهد إغاثية” معدّة سلفاً.

لكن الجثث لا تكذب، والتقارير الميدانية لا يمكن تزييفها بسهولة. ومع اتساع نطاق المجاعة، يتزايد عدد الوفَيَات يوميًا، وتتحدث التقارير عن أطفال يموتون بلا حليب، ومرضى يفارقون الحياة بسبب توقف أجهزة غسيل الكلى أو حضانات الأطفال.

التواطؤ الدولي… وتقصير المؤسسات الأممية

اللافت أن هذه الحملة الإعلامية الإسرائيلية تجد صدى أو صمتًا من بعض الجهات الدولية، حيث تُتَداوَل لقطات المساعدات الإسرائيلية على قنوات أوروبية وأميركية دون تدقيق حقيقي في خلفيتها أو فعاليتها.

ويُطرح هنا تساؤل أخلاقي خطير: هل بات المجتمع الدولي بحاجة إلى صور دعائية لإقناعه بأن الأمور بخير، بينما تقارير منظماته الخاصة تصرخ بالمجاعة؟ وهل تحولت المؤسسات الأممية إلى مجرد شهود صامتين، أو حتى مبررين لتأخر العدالة؟

بين الكاميرا والحصار: الجريمة مستمرة

ما يجري اليوم هو جريمة مزدوجة: الجريمة الأولى هي فرض الحصار وتجويع السكان عمدًا، وهو ما يُصنف قانونيًا جريمة حرب وانتهاكًا للقانون الدولي الإنساني. أما الجريمة الثانية فهي محاولة طمس هذه الجرائم عبر تصويرها كـ”مشكلة إغاثية مؤقتة يتم التعامل معها”.

وبدل أن تُحمّل دولة الاحتلال المسؤولية الكاملة عن الحصار والتجويع، يُعاد توجيه الأنظار نحو روايات منمقة عن “جهود إسرائيل للتخفيف من الكارثة”، وكأن المساعدات المحدودة جاءت في فراغ، وليس بعد شهور من القصف والتجويع المتعمد.

لكن في النهاية، لا يمكن لماكينة دعاية، مهما كانت متقنة، أن تُقنع العالم بأن الموت جوعًا هو مجرّد أزمة غذائية عابرة. ولا يمكن لصورة جندي يوزع صندوقاً من التمر أن تمحو مشهد طفل يحتضر من الجوع، أو أم تُطعم أبناءها الماء فقط.

سيبقى التاريخ شاهدًا على أن دولة الاحتلال لم تكتفِ بالقتل والقصف، بل أرادت أن تقتل الفلسطينيين جوعًا، ثم تصورهم وهم يتسلمون فتات الحياة أمام عدسات الكاميرا.

وستبقى هذه الحملة الإعلامية مثالاً على كيف يُستخدم الإعلام كأداة لاستكمال الجريمة لا لتغطيتها فقط. لكن الكلمة الأخيرة لن تكون للدعاية – بل للواقع… ولأمعاء خاوية لم تعد تحتمل الكذب.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى