تحليلات واراء

مصر والأردن رهن التحكم الإسرائيلي.. المواجهة مع إيران تفضح الواقع المرير

في مشهد يكشف عمق الارتهان السياسي والاقتصادي، وجدت مصر والأردن نفسيهما في الأيام الماضية تحت رحمة القرارات الإسرائيلية، ليس بفعل ضغوط سياسية أو عسكرية مباشرة، بل بسبب “الحنفية” التي تتحكم بها تل أبيب: الغاز الطبيعي.

فمع بدء المواجهة العسكرية المستمرة بين إيران ودولة الاحتلال في 13 يونيو 2025، سارعت تل أبيب إلى إيقاف اثنين من حقول الغاز الثلاثة التي تديرها في البحر المتوسط كـ”إجراء احترازي”، ما أدى إلى توقف شبه كامل لإمدادات الغاز نحو مصر والأردن.

هذا التوقف كشف هشاشة البنية الاستراتيجية للطاقة في البلدين، وفضح الرهان الخاسر على الغاز الإسرائيلي الذي تحوّل إلى أداة تحكم صامتة، أشد وطأة من السلاح.

الاحتلال يغلق الصمام… ومصر والأردن تدفعان الثمن

بحسب تقرير لوكالة بلومبيرغ، فإن مصر بدأت في تلقي كميات صغيرة من الغاز الإسرائيلي بعد توقف دام ستة أيام، وسط ارتباك واضح في إدارة الشبكة القومية للطاقة.

وكانت دولة الاحتلال قد قررت إغلاق الحقلين في ذروة التوتر مع إيران، دون التنسيق مع أي من الطرفين المستوردين للغاز، ما يعني أن القرار لم يكن فنيًا بقدر ما هو استراتيجي، يكشف من يملك التحكم ومن يتلقى الصدمة.

هذا الانقطاع أُجبر السلطات المصرية على قطع إمدادات الغاز عن العديد من المصانع، وتحويل الأولوية إلى محطات الكهرباء، لتفادي انهيار الخدمات في ظل موجة حر صيفية ضاغطة.

أما في الأردن، فقد لجأت الحكومة إلى تخفيض إمدادات الغاز عن المنشآت الصناعية، بما في ذلك مصانع الإسمنت والأسمدة، التي تشكل عصبًا اقتصاديًا حساسًا.

حبل الطاقة في يد تل أبيب

الخطير في هذا المشهد أن الأمر لم يكن طارئًا أو غير متوقع. فمصر، التي كانت يومًا ما دولة مصدّرة للغاز، اختارت منذ سنوات أن تتحول إلى زبون دائم للغاز الإسرائيلي، بعد توقيع اتفاقيات طويلة الأمد مع شركات تسيطر عليها تل أبيب، من بينها شركة “ديليك” وشركة “نوبل إنيرجي”، لتوريد الغاز من حقل “تمار” و”ليفياثان” إلى الأراضي المصرية عبر خط العريش – عسقلان.

تحت شعار “تحول مصر إلى مركز إقليمي للطاقة”، تم تسويق هذه الاتفاقيات كإنجاز اقتصادي، بينما كانت الحقيقة أنها تصنع شبكة تبعية كاملة للطاقة مع دولة الاحتلال. أي قرار تتخذه تل أبيب بشأن الحقول أو الخطوط أو كميات الضخ، ينعكس فورًا على الصناعة المصرية والكهرباء وميزان المدفوعات.

الأمر نفسه ينطبق على الأردن، الذي وقّع اتفاقية استيراد غاز من دولة الاحتلال مدتها 15 عامًا، رغم الرفض الشعبي الواسع. الاتفاقية التي تمت عام 2016 ودخلت حيّز التنفيذ مطلع 2020، رُوّج لها حينها بأنها “ضمانة لأمن الطاقة”، لكنها أثبتت في لحظة واحدة أنها أداة خنق وليس ضمان.

حين تصبح أنابيب الغاز خطوطًا للابتزاز

تتصرف دولة الاحتلال مع الغاز كأداة سياسية وأمنية، لا كسلعة اقتصادية. حين تتوتر الأوضاع الأمنية، أو تريد تل أبيب فرض رسائل إقليمية، فإن أول ما تفعله هو إغلاق الصمامات أو تقليل الضخ.

في هذا السياق، لم يكن ما حدث في يونيو 2025 مجرد إجراء تقني لحماية المنصات من صواريخ إيران، بل رسالة متعددة الاتجاهات:

للداخل الإسرائيلي بأن البنية التحتية محمية حتى لو توقف الضخ مؤقتًا.

للأطراف العربية بأن تل أبيب تتحكم في شرايين الطاقة في المنطقة.

وللأعداء بأنها تستطيع الضغط على جيرانها من دون إطلاق رصاصة.

هذا السلوك يجعل من الغاز أداة ابتزاز دائمة، لا يجرؤ أي من المستوردين – لا مصر ولا الأردن – على الاعتراض عليه علنًا، خوفًا من تداعيات سياسية واقتصادية قد تكون مكلفة.

إخضاع كامل… بلا مقاومة

اللافت أن رد فعل القاهرة وعمّان لم يتجاوز الصمت التام. لا بيان احتجاج، ولا مطالبة بضمانات بديلة، ولا حتى حديث في الصحف عن خطورة الاعتماد الكامل على الغاز الإسرائيلي.

فقد تم التسليم التام بأن دولة الاحتلال تملك مفتاح الطاقة، وأن الخضوع لها بات أمرًا واقعًا، لا يحتاج حتى إلى تبرير.

في المقابل، تواصل الحكومتان سياسات التضييق على شعوبهما، وتبرير الغلاء وتراجع الخدمات بـ”الظروف الدولية”، بينما الحقيقة أن هذه الظروف تُدار من مكتب وزير الطاقة الإسرائيلي، وليس من واشنطن أو موسكو.

خيارات الاستقلال التي أُهملت عمدًا

المفارقة أن كلاً من مصر والأردن يملكان بدائل، لكنها وُضعت في الأدراج، أو تم تجاهلها:

مصر كانت تملك فائضًا من الغاز الطبيعي بعد اكتشاف حقل “ظُهر”، لكنها اختارت تصديره للخارج، وإعادة استيراد الغاز الإسرائيلي في مفارقة عبثية.

الأردن يملك مصادر طاقة متجددة ضخمة في الصحراء الجنوبية، لكنه لم يستثمرها كبديل استراتيجي، بل استسلم لاتفاقيات الغاز مع العدو الذي يحتل أراضيه في وادي عربة.

الاعتماد على الغاز الإسرائيلي لم يكن حتمية، بل خيار سياسي واقتصادي بامتياز. وقد أثبتت الأحداث الأخيرة أنه خيار باهظ الكلفة، وفاقد للسيادة.

وما حدث في مواجهة دولة الاحتلال مع إيران لم يكن مواجهة على الأرض فقط، بل مواجهة في ملف الطاقة، كشفت فيها تل أبيب أنها تمسك برقاب جيرانها من خلال شبكة الغاز.

مصر والأردن اليوم ليسا مجرد شركاء اقتصاديين، بل رهائن ضمن لعبة طاقة إقليمية تُدار من تل أبيب.

وبحسب مراقبين فإمّا أن يعيد البلدان النظر في خياراتهما الاستراتيجية، ويفكّكا هذا الارتهان المهين، أو أن يتحملا عواقب استمرار الخضوع، حين يقرر الاحتلال أن يطفئ الكهرباء في القاهرة أو يعطّل المصانع في عمّان… دون إطلاق رصاصة واحدة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى