القمة العربية في بغداد: احتفال لغوي جديد وسط خذلان رسمي لغزة

انطلقت قمة دول الجامعة العربية الرابعة والثلاثون في العاصمة العراقية بغداد يوم السبت، وسط شعارات براقة من قبيل “حوار وتضامن وتنمية”، فيما القضية الفلسطينية – وتحديداً المجزرة المستمرة في قطاع غزة – تتصدر جدول الأعمال وسط خذلان رسمي لغزة.
إذ أن ما هو متوقع من الاجتماعات العربية في القصر الحكومي العراقي لا تتجاوز تكرار للنمط العربي الرسمي الذي بات مألوفاً: بيانات شجب، خطابات وجدانية، وتأكيدات على “دعم الحقوق المشروعة”، دون أي أثر ملموس على الأرض.
وفي وقت يواجه فيه أكثر من 2.4 مليون فلسطيني في قطاع غزة حرب إبادة مفتوحة منذ أكثر من عام ونصف، يغيب الفعل العربي الجماعي، أو يتوارى خلف اللغة الدبلوماسية المهذبة. فقد تحولت القمم العربية إلى مناسبات موسمية لتجديد الصمت، لا لكسره.
منذ بدء العدوان الإسرائيلي على غزة في أكتوبر 2023، ارتكبت تل أبيب ما وصفه باحثون في دراسات الإبادة الجماعية بأنه “إبادة مكتملة الأركان”.
فالمجازر لم تتوقف، وعمليات التجويع وسياسات التهجير القسري مستمرة، والمساعدات ممنوعة، والمستشفيات مدمرة أو فارغة. ورغم كل ذلك، فإن أغلب الدول العربية ما زالت تكتفي بـ”التعبير عن القلق”، أو “الدعوة لضبط النفس”، أو في أقصى الحالات “المطالبة بالتهدئة”.
القمة العربية في بغداد لا تخرج عن هذا الإطار. فلم يتم الإعلان عن أي مبادرة سياسية حقيقية أو حتى ضغط جماعي ملموس لإجبار دولة الاحتلال الإسرائيلي على وقف المجازر أو فك الحصار.
ولن يصدر قرارا بإنشاء جسر جوي عربي لإدخال المساعدات، أو تحرك رسمي لمحاكمة مجرمي الحرب الإسرائيليين، أو تهديد بقطع العلاقات أو وقف التطبيع. وحتى قرارات “الحد الأدنى” مثل المطالبة بوقف الدعم العسكري الأمريكي لإسرائيل لم تُطرح بقوة.
تسييس الجغرافيا… وتجاهل الدم
إن ما يكشفه مشهد القمة بوضوح هو أن قطاع غزة لم يعد يحظى بمكانة في سلّم الأولويات الرسمية العربية، حتى في مستوياته الرمزية. فباستثناء بعض الكلمات المؤثرة والبيانات العاطفية، بدا وكأنّ العدوان على غزة مجرد حدث هامشي لا يستدعي من الدول العربية أي فعل خارج المألوف.
هذا التراجع لا يُفسَّر فقط بالتقاعس، بل أيضاً بتبدل واضح في البوصلة السياسية: تحالفات جديدة، أولويات اقتصادية، وهم الاستقرار، وتنسيق أمني مع الاحتلال. دول عربية بعينها، كانت تُقدَّم يوماً كمدافعة عن فلسطين، باتت ترى في القضية الفلسطينية عبئاً يجب التخلص منه أو استثماره إعلامياً لا أكثر.
التطبيع يقتل فلسطين… مرتين
لعل ما يجعل موقف القمة في بغداد أكثر مرارة هو تزامنه مع تصاعد غير مسبوق في وتيرة التطبيع العربي – الإسرائيلي، حتى في ظل الإبادة الجارية.
الأردن ومصر، الإمارات، البحرين، المغرب، والسودان حافظت على علاقاتها العلنية مع دولة الاحتلال كأن شيئاً لم يكن، وبعضها استمر في التعاون الأمني والتجاري دون حرج.
وحتى دول لم توقع اتفاقات رسمية، لم تُبدِ استعداداً لاتخاذ موقف جريء يعيد الاعتبار للثوابت القومية والإنسانية.
هذا التطبيع لا يقتل فلسطين فقط، بل يقتل الضمير العربي، ويحوّل الموقف السياسي العربي إلى غطاء ناعم للجرائم الإسرائيلية. بل إن بعض الأنظمة باتت ترى في تعذيب غزة فرصة لتقوية مواقعها التفاوضية مع الغرب، أو لتمرير أجندات إقليمية خاصة.
غزة تحت النار… والعرب تحت السقف
في مقابل الانهيار العربي الرسمي، كانت غزة تصمد وحدها. تقاتل، وتُجَوَّع، وتُقصف، وتُدَمَّر، وتحتفظ بكرامتها.
أما الأنظمة التي كان يُنتظر منها أن تشكل شبكة أمان أو داعماً سياسياً ولوجستياً، فهي ما زالت “تراقب عن كثب” وتُجري “اتصالات مكثفة”، بينما يموت الأطفال جوعاً في مخيمات رفح، وتُحرق العائلات في بيوتها تحت أنقاض جباليا ودير البلح.
وقد كشفت الأيام الماضية كيف أن الاحتلال الإسرائيلي، وبغطاء أمريكي، يحكم الحصار على القطاع، ويمنع إدخال الطعام والماء والدواء، فيما الدول العربية لا تبذل جهداً عملياً لتحدي هذه السياسة الإجرامية. ما زالت المعابر مغلقة، والمواقف مجمدة، والمسؤولية الأخلاقية معلقة في الهواء.
القمة بوصفها مشهداً من النسيان الجماعي
تحولت القمة العربية في بغداد إلى مشهد درامي يعكس الانفصام بين لغة البيانات الرسمية وواقع المجازر.
فلم تُخصَّص جلسة مغلقة لغزة، ولم يُشكَّل وفد طوارئ عربي لزيارة القطاع، ولم تُطرح آلية عربية ملزمة لإغاثة سكانه أو لحمايتهم دولياً. كل شيء بقي في حدود الإنشاء، بينما الناس في غزة يعيشون تحت الخيام أو الأنقاض، ويعدّون أيام التجويع يوماً بيوم.
بالتالي، فإن الخذلان لم يعد مجرد موقف سلبي، بل تحوّل إلى فعل سياسي بحد ذاته. التراخي العربي بات جزءاً من آلة الحرب على غزة، وتجاهل الدم الفلسطيني أصبح مساهمة غير مباشرة في استمراره.
وقد تكون القمة العربية خذلت غزة، لكن الشعوب لم تفعل. المظاهرات الشعبية، والحملات الإلكترونية، ومبادرات التبرع، والمواقف الفردية الجريئة، كلها تؤكد أن فلسطين لا تزال في وجدان الناس، حتى وإن غابت عن أجندات الزعماء.
إن اختبار غزة اليوم هو اختبار للوعي العربي، ولا يمكن التعويل على أنظمة فقدت إرادتها أو ارتهنت لتحالفات لا ترى في فلسطين سوى ملف مغلق. الأمل يبقى في الذاكرة الجمعية، في قوة المقاومة، وفي المستقبل الذي سيحاسب – لا محالة – كل من صمت، وشارك، وتواطأ.