
بين الخيام المؤقتة وعيادات ميدانية محدودة الإمكانيات، وبين صرخات الولادة وأوجاع الجوع، تتكشف مأساة صامتة تُطال أكثر من 50 ألف امرأة حامل في قطاع غزة وسط ارتفاع حالات الإجهاض.
فمنذ اندلاع حرب الإبادة الجماعية الإسرائيلية على القطاع قبل 19 شهراً، باتت الأرحام تُغلق كما أُغلقت المعابر، في مشهد تقشعر له الأبدان، وتُكتب فيه قصص الإجهاض بالحبر الأسود للجوع والقصف والخوف.
وعلى مدى الثمانين يوماً الماضية فقط، وثّقت وزارة الصحة الفلسطينية في غزة أكثر من 300 حالة إجهاض. رقم ليس مجرد إحصائية، بل صرخة تنوب عن آلاف من النساء اللاتي حُرمن من حق الحياة، وحُكم على مواليدهن بالموت قبل الولادة.
انتظار عقد من الزمن قتله الجوع
هديل مسعود (35 عاماً) هي واحدة من هؤلاء الأمهات، حملت بعد عشر سنوات من الانتظار الطويل. كانت تحلم بطفل يملأ حياتها ضوءًا. لكن في غزة، لا الأحلام تُحترم ولا الأجنّة تُحمى.
قالت هديل بصوت متهدج وهي تُمسك بصورة الموجات فوق الصوتية في خيمتها الصغيرة “انتظرت هذا الطفل عشر سنوات، لكنني لم أستطع حمايته من الجوع”.
وصلت هديل إلى المستشفى بعد أن توقف جنينها عن الحركة. سوء التغذية حرم جسدها من القدرة على إخراجه، فبقي ميتاً في أحشائها يومين. “لم أكن فقط أمًا مكلومة، كنت جسدًا جائعًا، محطمًا، ينتظر فرجًا لم يأتِ أبدًا”، تروي وهي تبكي.
سياسة التجويع الممنهجة
يؤكد منير البرش، مدير عام وزارة الصحة في غزة، أن “النساء الحوامل من بين الفئات الأكثر ضعفًا، ويمتن بصمت، واحدة تلو الأخرى، مع أطفالهن الذين لم يولدوا بعد”.
وشد البرش على أن الاحتلال الإسرائيلي اتبع “سياسة تجويع ممنهجة” أدت إلى وفاة 58 شخصًا مباشرة بسبب سوء التغذية، و242 آخرين بسبب الحرمان من الغذاء والدواء، معظمهم من كبار السن والمرضى.
ووفقاً لتقارير الوزارة، فقد توفي 26 مريضًا بالفشل الكلوي بسبب انعدام الغذاء والرعاية الصحية. لكن الجوع، كما تشير الشهادات، لم يعد يهدد فقط من هم على قيد الحياة، بل بات يسرق الحياة قبل أن تبدأ.
الإجهاض كأثر مباشر للحصار
في حي الشجاعية، كانت رغدة المصري (46 عاماً) تمسح العرق عن جبين ابنتها رزان (22 عاماً)، التي أجهضت جنينها في الأسبوع الرابع والعشرين. “كانت تحلم أن ترضعه بسلام”، تقول رغدة، “لكن الجوع قتل الحلم”.
رزان كانت تعاني من فقر دم شديد، ولم تجد أقراص الحديد، ولا اللحوم، ولا حتى البيض أو الخضراوات. عندما بدأ النزيف، أدركت رغدة أن جسد ابنتها لم يعد يحتمل.
ويؤكد محمد جودة، طبيب التوليد في مستشفى الشفاء، أن ما يحدث ليس حالات فردية، بل نمط مأساوي مستمر. “نحن أمام انهيار هيكلي. الجوع والصدمات النفسية ونقص البروتينات والفيتامينات تخلق مزيجاً قاتلاً يقود إلى الإجهاض أو ولادة أجنة ميتة”.
مجازر صحية صامتة
حنان صالحة، قابلة تعمل في مستشفى ناصر بخان يونس، تقول إن كل وردية لها هي مواجهة مع الموت. “نستقبل نساءً شاحبات، ضعيفات، ينزفن. 70% منهن يعانين من فقر الدم، الكثيرات يصلن بعد انهيار تام أو ولادة مبكرة بسبب الجوع”.
أما ميساء جودة (26 عاماً)، الحامل في شهرها السادس، فتقول وهي تلف ذراعيها حول بطنها: “كل ركلة من جنيني هي معجزة، لكنني أرعب حين تتوقف. آكل مرة واحدة في اليوم، وأحياناً لا آكل. أشعر أنني أموت”.
ومنذ بداية حرب الإبادة، منعت سلطات الاحتلال دخول الغذاء والمستلزمات الطبية إلى القطاع، وأغلقت المعابر بشكل شبه كامل، ما أدى إلى شلل تام في النظام الصحي.
وتقول منظمات أممية إن غزة على شفا مجاعة شاملة، بينما تؤكد الوقائع الميدانية أن العديد من سكانها – خاصة النساء الحوامل – تجاوزوا بالفعل تلك العتبة الكارثية.
ويعلق مروان الهمص، مدير المستشفيات الميدانية بأن “إسرائيل لا تغلق الحدود فقط، بل الأرحام أيضًا”. ويعتبر حالات الإجهاض المتصاعدة “جريمة حرب”، ضمن سياسة تهدف إلى استنزاف المستقبل الفلسطيني.
حرب على الأمهات
ورغم الإدانات الدولية، لم يحدث أي تغيير جوهري. المساعدات تصل إلى الجنوب بشكل متقطع، وغالباً ما تُنهب أو تُمنع. النساء في شمال ووسط القطاع معزولات تمامًا. في الوقت نفسه، تفتقر المستشفيات إلى الحليب والحديد وحمض الفوليك وحتى المياه النظيفة.
“نحن نخسر الجيل القادم قبل أن يولد”، تقول هبة دواس، ممرضة في مستشفى ناصر، وهي تروي حالة امرأة فقدت جنينها بعد ثلاثة أيام من الصيام القسري. “سألتني إن كانت أخطأت في شيء. كيف أشرح لها أن الجريمة ليست منها؟”.
وفي ظل هذا الواقع، تُناشد منظمات الإغاثة المجتمع الدولي للتحرك العاجل لفتح المعابر والسماح بدخول المساعدات. فكل يوم يمضي يعني فقدان المزيد من الأرواح – لا في ساحات القتال، بل في بطون الأمهات.
اليوم، لا تموت النساء في غزة فقط بالقصف، بل بالجوع. ولا يُجهض الحمل فقط لأسباب طبية، بل لأسباب سياسية. وبينما تكتفي بعض الحكومات ببيانات الشجب، تتراكم الجثث في مستشفيات بلا كهرباء، ويعلو الصمت في أرحام تموت قبل أن تنجب.