فساد السلطة الفلسطينية: ترحيل الأزمة المالية إلى الأجيال القادمة بأعباء ديون ضخمة

تشهد السلطة الفلسطينية أزمة مالية هي الأخطر منذ عقود، تتجاوز مجرد عجز في الموازنة لتصل إلى مرحلة قضم مستقبل الأجيال القادمة.
ففي خطوة مثيرة للجدل، أصدر رئيس السلطة محمود عباس القرار بقانون رقم 20 لسنة 2025، الذي عدّل قانون الدين العام رقم 24 لسنة 2005، في خطوة يُسوّق لها رسميًا على أنها محاولة لضبط سياسة الاقتراض الحكومي، لكنها في الواقع تمثل قنبلة مالية موقوتة تهدّد الاقتصاد الفلسطيني وتكبّل المواطنين بأعباء ديون لا قدرة لهم على سدادها.
ووفق التعديلات الجديدة، تم رفع سقف الدَّين العام من 40% إلى 80% من الناتج المحلي الإجمالي، وتوسيع تعريف “الدَّين العام” ليشمل جميع الالتزامات الحكومية المباشرة وغير المباشرة، الداخلية والخارجية على حد سواء.
وهذا يعني أن كل المساعدات والقروض الضمنية أو الالتزامات المستقبلية للمؤسسات القريبة من الدولة ستضاف تلقائيًا إلى عبء الدين. وهو ما يحوّل المواطن الفلسطيني إلى ضحية لمخطط استدانة طويل الأجل لا يضع إصلاحًا حقيقيًا في الحساب.
وتكشف الأرقام الرسمية أن الدين الخارجي للقطاعات الاقتصادية في فلسطين بلغ نحو 2.118 مليار دولار، وتمثّل الحكومة حوالي 64% منه، بينما تصل إجمالي القروض (حسماً غير مباشر) إلى نحو 9.943 مليار دولار.
ورغم هذه المؤشرات، يُسمح بمضاعفة سقف الدَّين إلى 80% من الناتج المحلي، ما قد يضع الاقتصاد الفلسطيني أمام ديون تتجاوز 50 مليار شيكل، في ظل موارد محدودة ونمو اقتصادي مقيد بسبب الاحتلال الإسرائيلي.
الأزمة المالية للسلطة الفلسطينية
يبرز الصحفي نبهان خريشة أن قانون الدين العام يُسوّق بأنه “حل” لأزمة المالية العامة، لكنه في جوهره مجرد ترحيل للأزمة إلى المستقبل.
ويشير خريشة إلى أن السلطة لا تقدّم أي خطة واضحة لسداد الدين، ولا تحدد مصادر تمويل موثوقة، بل تعتمد على مزيد من الاقتراض وإصدار سندات خزانة دون ضمانات بأن هذه الخطوة ستولد موارد وطنية مستدامة.
وتزيد هذه السياسات المخاطر على المواطنين والبنوك على حد سواء، إذ قد تصبح أموال المودعين في خطر في حال تراكم الدين أو عدم قدرة الحكومة على السداد.
كما أن التعديلات نصّت على إنشاء “حساب الوفاء”، وهو حساب يُفترض أن تُحتجز فيه المخصصات المالية لسداد الالتزامات الحكومية، لكنه يثير الأسئلة حول مصادر التمويل التي ستملأ هذا الحساب، خاصة في وقت تتوقف فيه السلطة عن دفع بدل المواصلات للمعلمين والأطباء، وتتأخر في صرف مخصصات الشهداء والأسرى. يبدو هذا الحساب كواجهة شكلية لإخفاء فشل السلطة في إدارة المال العام.
فساد مالي متراكم
يأتي هذا التطور بعد سلسلة أزمات متراكمة أظهرتها إدارة حكومة محمد مصطفى، من خلال زيادة الديون لمواجهة الديون السابقة، تعديل المناهج التعليمية وفق أجندات خارجية، وإيقاف مخصصات الشهداء والأسرى لشراء الوقت أو الضغط على إسرائيل. وكل ذلك يدل على غياب رؤية اقتصادية واضحة أو خطة إصلاح حقيقية.
وتشير توقعات السلطة إلى عجز بنسبة 4.9% من الناتج المحلي لعام 2025، مع ارتفاع الدين العام إلى نحو 69% من الناتج قبل التعديلات الجديدة، وهو ما يجعل القرار الأخير بمثابة قفزة نحو المجهول، في وقت لا تزال فيه الإيرادات الوطنية ضعيفة والنمو الاقتصادي محدودًا.
أما قطاع غزة، فقد شهد انكماشًا يصل إلى 86% جراء الحروب والحصار، ما يزيد الوضع تعقيدًا ويضع المواطنين أمام مأزق مالي مستمر.
والقانون الجديد يغيّر العلاقة بين المواطن والدولة بشكل جذري. المواطن لم يُستشار ولم يُأخذ رأيه، لكنه يُحمّل المسؤولية كاملة عن أزمات مالية قد لا تتحقق إلا بعد سنوات طويلة، وهو ما يمثل استدانة مقنّعة تُخفي وراءها تفريغًا للمسؤولية وتحويل مستقبل البلاد إلى رهينة مالية.
ومن اللافت أيضًا أن السلطة الفلسطينية تُحاول تصوير هذا القرار بأنه إجراء إداري بحت، لكنه في الحقيقة فتح واسع لصندوق ديون متراكمة، يُوقع على مستقبل الأجيال الفلسطينية، ويجعل أي تحسّن اقتصادي أو إصلاح مالي تحت رحمة المراوغة الحكومية.
وبحسب خريشة فإن ما تحتاجه فلسطين اليوم ليس رفع سقف الدين، بل سقفًا للإصلاح المالي، شفافية في إدارة الموارد، واستراتيجيات وطنية حقيقية للنمو وزيادة الإيرادات، بعيدًا عن الاعتماد على القروض والمساعدات الخارجية التي تُكرّس التبعية وتضع المواطنين رهائن لمزيد من الاستدانة.
وعليه يكشف القانون رقم 20 لسنة 2025 فساد السلطة الفلسطينية بشكل واضح: إدارة المال العام تحت شعار “الاستدانة لحل الأزمات” هي مجرد غطاء لمزيد من الفشل الإداري والسياسي، وترحيل عبء الأزمة المالية إلى أجيال فلسطينية مقبلة، دون أي خطة جدية لتحسين الاقتصاد أو حماية حقوق المواطنين.
وهو ما يجعل السلطة أكثر مسؤولية عن الأزمات المالية الحالية والمستقبلية، ويضع الشعب الفلسطيني في مواجهة مباشرة مع آثار فسادها المستمر.




