خذلان النظام الأردني لغزة: بين تمسّك بالتطبيع وتزييف المواقف

منذ بدء حرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزة وما يعانيه من ظروف كارثية من حصار خانق، ودمار واسع، وعدّاد للمجازر لا يتوقف، يقف النظام الأردني في موقف باهت، متردّد، لا يرقى إلى الحد الأدنى من المساندة الإنسانية أو السياسية.
بل إن النظام الأردني يواصل في المقابل تعزيز علاقاته الأمنية والدبلوماسية مع الاحتلال الإسرائيلي، في خذلان تاريخي لشعب غزة المحاصر وللقضية الفلسطينية عمومًا.
ازدواجية فاقعة: بيانات خطابية وشبكة تعاون أمني
لا يمكن قراءة الموقف الأردني من حرب غزة بعيدًا عن شبكة المصالح والتعاون القائم بين عمّان وتل أبيب.
فمنذ توقيع اتفاق وادي عربة عام 1994، دخلت العلاقات الأردنية-الإسرائيلية مرحلة من “التطبيع المنهجي” الذي لم يتراجع رغم كل ما شهدته الساحة الفلسطينية من مذابح، اجتياحات واعتداءات.
وقد تعزز هذا النهج مؤخرًا من خلال اتفاقيات المياه والكهرباء، وتبادل الزيارات الرسمية، والتنسيق الأمني المفتوح تحت الطاولة وفوقها.
وفي الحرب الجارية على غزة، ظهر هذا التواطؤ بأوضح صوره. فعلى الرغم من قتل الاحتلال نحو 60 ألف فلسطيني، غالبيتهم من المدنيين، لم يُسجّل للأردن أي موقف حازم تجاه دولة الاحتلال يتجاوز بيانات التعبير عن “القلق” أو الدعوة “لوقف التصعيد”.
بل إن الطائرات الإسرائيلية التي كانت تضرب رفح وخانيونس والوسطى، كانت تمرّ في أحيان كثيرة عبر ممرات جوية لا تعترض عليها عمّان، وسط تنسيق عسكري غير معلن.
وحتى في الحالات التي زُعِم فيها أن الأردن أرسل مساعدات جوية أو إنسانية إلى غزة، كانت الكميات رمزية، محكومة باعتبارات إعلامية بالدرجة الأولى، لا إنسانية.
ولم تُفتح الحدود ولا المطارات لمرور قوافل إغاثية كبيرة، بل ظلّت الخطابات الرسمية تدور حول “السيادة” و”الحياد”، دون الالتفات إلى الكارثة الإنسانية التي تتصاعد يومًا بعد يوم.
قمع الداخل… وإسكات صوت التضامن
في الداخل الأردني، حيث تُعدّ القضية الفلسطينية عنصرًا مركزيًا في وجدان غالبية الأردنيين، حرصت السلطات على قمع أي مظهر من مظاهر التضامن الشعبي مع غزة.
فالمسيرات التي خرجت في عمّان وإربد والكرك نصرة لغزة، قوبلت بالمنع أو التفريق أو الاعتقال. وشهدت الأسابيع الأولى من الحرب اعتقال عشرات النشطاء الذين رفعوا شعارات مناهضة للتطبيع أو طالبوا الحكومة بقطع العلاقات مع الاحتلال.
وأغلق الأمن الأردني مقارّ لأنشطة طلابية في الجامعات، وملاحقة حملات التبرع، وتوجيه تحذيرات صارمة للإعلام المحلي بعدم تغطية فعاليات التضامن الشعبي أو نقل رواية المقاومة الفلسطينية.
وهكذا، بدا وكأن النظام الأردني يخشى من أن تتحول غزة إلى مصدر تعبئة جماهيرية قد تفتح الباب أمام مطالب إصلاحية داخلية، أو تهدد موازين علاقته الخاصة مع تل أبيب.
دعاية مضللة… صحافة التجميل والتبرير
في الوقت الذي تكشف فيه التقارير الدولية عن أن غزة باتت “غير صالحة للحياة”، تمضي بعض وسائل الإعلام الأردنية، الرسمية وشبه الرسمية، في ضخ سرديات مضللة تسعى لتجميل موقف الحكومة و”تسويق بطولات وهمية”.
فقد نُشرت أخبار مكثفة عن إرسال طائرات أردنية مساعدات “ضخمة”، وعن دور مزعوم للقيادة الأردنية في “الضغط على المجتمع الدولي”، أو “التدخل لوقف الحرب”، دون أي دليل ملموس على ذلك.
حتى التحركات الميدانية الرمزية، كإنشاء مستشفى ميداني في جنين، أو مشاركة الأردن في بعض جلسات الأمم المتحدة، جرى تضخيمها إعلاميًا على أنها “مواقف شجاعة” و”أفعال غير مسبوقة”، رغم أنها لم تغيّر شيئًا من الواقع على الأرض.
وبدا واضحًا أن الهدف من هذا التغطية الإعلامية هو حرف الأنظار عن المطالب الحقيقية بقطع العلاقات مع الاحتلال، وتهدئة الشارع الغاضب بتصريحات لا تسمن ولا تغني من جوع.
القضية الفلسطينية على هامش الأولويات الرسمية
كان يُفترض أن تكون غزة جرس إنذار للمراجعة الجذرية للسياسات الأردنية تجاه الاحتلال، لكنّ الوقائع تثبت أن العلاقة مع إسرائيل لا تزال أولوية استراتيجية للنظام، حتى ولو كانت على حساب الدم الفلسطيني.
ولم يعلن الأردن سحب سفيره من تل أبيب، ولم يجمّد اتفاق الغاز أو المياه، ولم يلوّح حتى بتعليق اتفاقية وادي عربة، رغم أن ذلك قد يعكس الحد الأدنى من موقف أخلاقي تجاه ما يجري في القطاع.
بل إنّ الأردن الرسمي استمر في استقبال المسؤولين الإسرائيليين، وشارك إلى جانبهم في مؤتمرات إقليمية، فيما كانت دبابات الاحتلال تسحق الأحياء في غزة، وتمنع دخول الدواء والماء، وتُطلق النار على النازحين والمصابين.
غضب صامت… وإرث يتآكل
ربما لا تُسمع أصوات الغضب الشعبي الأردني في الإعلام الرسمي، لكنّها تتصاعد يومًا بعد آخر. والمفارقة أن هذا الغضب لا يقتصر على الإسلاميين أو القوميين، بل بات يمتد إلى شرائح واسعة من الشباب، والموظفين، والطلبة، الذين يرون في ما يجري في غزة مرآة لانهيار المواقف الأخلاقية، واستسلامًا مريعًا للإرادة الإسرائيلية.
ويؤكد مراقبون أنّ تخلي عمّان عن نصرة غزة لا يضرب فقط عمق الهوية الأردنية المتضامنة تقليديًا مع فلسطين، بل يهدد كذلك ثقة الناس في مؤسساتهم، ويؤسّس لشرخ لا يمكن ترميمه بسهولة.
إذ حين تصطفّ الحكومات مع الجلاد، وتصمت عن المجاعة، وتعتقل من يتضامن، تصبح الشعارات المرفوعة عن “دعم الحق الفلسطيني” مجرد ستار دخاني، لا يلبث أن يتلاشى في أول اختبار. وقد كان اختبار غزة قاسيًا… وكاشفًا.