على عين السلطة.. الاحتلال ينزع صلاحيتها بالحرم الإبراهيمي ويقتحم رام الله
أين السيادة المزعومة؟

في مشهد يختصر مأساة الحالة الفلسطينية الرسمية، جاءت الأنباء عن قرار الاحتلال الإسرائيلي سحب صلاحيات بلدية الخليل في إدارة الحرم الإبراهيمي لصالح مجلس المستوطنين في كريات أربع، لتكشف مجدداً زيف ادعاءات السيادة التي تروج لها السلطة الفلسطينية، وتفضح فشل نهجها القائم على التنسيق الأمني والتمسك بوهم التسوية السياسية.
فبينما تتغنى السلطة صباح مساء بشعارات «سحب الذرائع» من الاحتلال و«التزام القانون الدولي»، يواصل الاحتلال هجماته على الأرض، ضارباً عرض الحائط بكل الاتفاقات والمواثيق، وآخرها بروتوكول الخليل الذي جاء بعد مجزرة الحرم الإبراهيمي عام 1994.
والقرار الإسرائيلي الأخير لم يكن مجرد خطوة إدارية، بل اعتداء سافر على الحضارة والتاريخ والرمزية الدينية للحرم الإبراهيمي، الذي يسجل على قائمة التراث الإنساني العالمي، ويعد ملكية فلسطينية خالصة، كما أكد رئيس بلدية الخليل تيسير أبو سنينة في بيانه الغاضب.
لكن السؤال المرير الذي يطرحه الفلسطينيون اليوم: أين السلطة الفلسطينية مما يجري؟ وكيف يمكن لكيان يدّعي تمثيل الشعب الفلسطيني أن يواصل الصمت أو الاكتفاء ببيانات الإدانة، بينما الاحتلال ينهش ما تبقى من مقدسات البلاد؟
التنسيق الأمني… عباءة الاحتلال
لعل أخطر ما يميز المشهد الراهن أن الاحتلال لم يعد يكتفي بهدم البيوت أو مصادرة الأراضي، بل بات يستخدم السلطة الفلسطينية نفسها غطاءً شرعياً لتقويض أي شكل من أشكال السيادة الفلسطينية.
السلطة التي تباهي العالم بأنها «شريك في الأمن والاستقرار» لا تتصرف كمن يمثل شعباً تحت الاحتلال، بل كجهة وظيفية تضبط الشارع الفلسطيني وتمنع أي رد فعل شعبي قد يربك حسابات الاحتلال أو يكشف هشاشة اتفاقيات أوسلو وما تلاها.
فبينما كان الاحتلال يسحب صلاحيات بلدية الخليل ويقتحم الحرم الإبراهيمي، كان جنوده أيضاً يقتحمون قلب رام الله، العاصمة المزعومة للسلطة، في عمليات متكررة تُظهر أن السيادة الفلسطينية محض وهم على ورق.
تقتحم القوات الإسرائيلية المدن وتعتقل الشباب وتطلق النار على المقاومين وتدمر المنازل، دون أن تحرّك السلطة ساكناً، اللهم إلا بيانات شجب خجولة باتت مادة للسخرية على ألسنة الناس.
سحب الصلاحيات… تهويد ممنهج
ليس سحب صلاحيات بلدية الخليل سوى حلقة جديدة في مخطط تهويد الحرم الإبراهيمي، الذي بدأ منذ احتلال المدينة عام 1967. فمنذ الأيام الأولى للاحتلال، نظّم الإسرائيليون حفلات زفاف داخل الحرم كرسالة استفزازية تؤكد أطماعهم في المكان.
وبعد مجزرة الحرم الإبراهيمي عام 1994، قسّمت سلطات الاحتلال المسجد بنسبة 63% لليهود و37% للمسلمين، بما في ذلك غرفة الأذان، التي باتت جزءاً من المساحة اليهودية.
وكشفت صحيفة «يسرائيل هيوم» العبرية، أن الاحتلال قرر اتخاذ خطوات غير مسبوقة، من بينها إعادة تسقيف الحرم وبناء سقف فوق ساحة يعقوب التي يصلي فيها اليهود أغلب أيام السنة، إضافة إلى خطط تطويرية تكرّس الهيمنة الإسرائيلية على المكان وتحوّله إلى مَعْلَم سياحي يهودي، تمهيداً لتهويد البلدة القديمة بأكملها.
اتفاق الخليل… وثيقة إذعان
لا يمكن قراءة ما يجري دون التذكير باتفاق الخليل الموقع في 17 يناير 1997 بين منظمة التحرير الفلسطينية ودولة الاحتلال الإسرائيلي، الذي قسّم المدينة إلى منطقتين: H1 الخاضعة نظرياً للسيطرة الفلسطينية، و H2 التي يسيطر عليها الاحتلال بالكامل، وتشمل البلدة القديمة والحرم الإبراهيمي.
وقد كان من المفترض أن يُبقي الاتفاق على وضع خاص للحرم، لكن الاحتلال استغل كل بند غامض أو فضفاض فيه لصالحه، وتحول الاتفاق إلى أداة لتشريع وجود المستوطنين وتوسيع صلاحياتهم.
وهو ما يتكرس اليوم بسحب صلاحيات البلدية وتسليمها للمجلس الديني للمستوطنين، في سابقة خطيرة تؤسس لمرحلة جديدة من السيطرة الإسرائيلية المطلقة على الحرم الإبراهيمي ومحيطه.
نهج السلطة… إفلاس سياسي وأخلاقي
كل ذلك يجري، بينما تصر السلطة على المضي في نفس المسار الذي أثبت فشله: التنسيق الأمني، انتظار المانحين، وإطلاق الشعارات حول «حل الدولتين» الذي دفنته دولة الاحتلال عملياً منذ سنوات.
والسلطة لا تمتلك أي أدوات ضغط حقيقية على الاحتلال، لأنها رهنت وجودها السياسي والأمني والمالي باتفاقات أوسلو، التي حوّلتها إلى سلطة بلا سلطة. فلا هي قادرة على وقف تغوّل الاستيطان، ولا على حماية مقدسات الفلسطينيين، ولا على منع اقتحام قوات الاحتلال قلب مدنها.
وفي الوقت نفسه، تمنع السلطة أي صوت مقاوم في الداخل، بحجة «المصلحة الوطنية» و«سحب الذرائع» من تل أبيب، فيما الذرائع باتت أمراً ثانوياً بالنسبة للاحتلال الذي ينفذ مخططاته دون تردد أو خشية.
شعب محاصر بين الاحتلال والسلطة
اليوم، يشعر الفلسطيني العادي أنه محاصر بين عدوين: الاحتلال الإسرائيلي الذي يسلبه أرضه وحريته، وسلطة فلسطينية عاجزة أو متواطئة، تبدو أولويتها الوحيدة الحفاظ على نفسها ككيان إداري قائم.
المواطنون في الضفة، خصوصاً في الخليل، يرون أن الهجمة على الحرم الإبراهيمي ليست مجرد قضية دينية أو أثرية، بل عنوان لمعركة وجود وهوية، بينما السلطة تبدو غائبة أو مغيبة عن هذه المعركة، وكأن ما يجري لا يعنيها.
ويؤكد مراقبون أن استمرار نهج السلطة الحالي لا يحقق سوى تكريس الاحتلال وتقوية مشروعه الاستيطاني، بينما يتآكل حلم الدولة الفلسطينية المستقلة.
ووسط هذا الواقع الكارثي، تبرز أسئلة مؤلمة: إلى متى ستظل السلطة الفلسطينية أسيرة الوهم السياسي؟ ومتى تدرك أن الاحتلال لا يحتاج إلى ذرائع كي ينهش ما تبقى من الأرض والهوية؟
في الحرم الإبراهيمي كما في رام الله، المشهد واحد: احتلال يمد أذرعه أكثر، وسلطة عاجزة تُغطي عجزها بالبيانات، بينما يتلاشى ما تبقى من السيادة المزعومة أمام أعين الجميع.