اعتراف الدول الغربية بدولة فلسطين نصر رمزي في معركة “طوفان الأقصى”

في خضم الحرب الإسرائيلية المتواصلة على قطاع غزة، تواصل تداعيات “معركة طوفان الأقصى” تجاوز الميدان لتصل إلى الساحة السياسية الدولية، حيث بات الاعتراف المتسارع بدولة فلسطين من قِبل عدد من الدول الغربية – وعلى رأسها بريطانيا – يُشكّل منعطفًا رمزيًا حاسمًا في مسار الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.
ويُعتبر هذا الاعتراف -بحسب مراقبين- بمثابة انتصار سياسي ومعنوي للمقاومة الفلسطينية في مواجهة الاحتلال، خاصة حين يصدر عن دولة مثل بريطانيا التي وضعت قبل أكثر من قرن حجر الأساس لمأساة الشعب الفلسطيني بوعد بلفور.
من وعد بلفور إلى اعتراف بفلسطين
لطالما حملت بريطانيا عبء المسؤولية التاريخية عن الكارثة الفلسطينية، بعد أن منحت في عام 1917 “وعد بلفور” الذي مهّد الطريق لزرع كيان استيطاني أجنبي في قلب المشرق العربي، على حساب شعب فلسطين وأرضه وحقوقه.
ومنذ قيام دولة الاحتلال الإسرائيلي عام 1948، دأبت لندن على لعب دور المنحاز – أحيانًا بصمت، وأحيانًا علنًا – إلى المشروع الصهيوني، رغم التغيرات المتعاقبة في الحكومات والتوجهات السياسية.
إلا أن التطورات الأخيرة، مع إعلان رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر دعم حكومته الاعتراف بدولة فلسطين، تمثل قطيعة رمزية – ولو متأخرة – مع هذا الإرث الاستعماري.
وفي تصريحات لافتة خلال لقائه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، أشار ستارمر إلى أن بريطانيا “لن تبقى رهينة الموقف الإسرائيلي”، في رسالة ضمنية مفادها أن اعتراف المملكة المتحدة بفلسطين بات مسألة وقت – لا أكثر.
ويُنظر لهذا التحول على نطاق واسع كواحد من أهم المكاسب السياسية التي أفرزتها “معركة طوفان الأقصى”، والتي بدأت في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، حين نفذت حركة حماس عملية عسكرية مباغتة ضد مواقع إسرائيلية، وأعادت القضية الفلسطينية إلى مركز الاهتمام العالمي بعد سنوات من التجاهل أو التطبيع الصامت.
التحولات الأوروبية: من التنديد إلى الاعتراف
لم تكن بريطانيا وحدها التي أظهرت هذا الميل نحو الاعتراف بالدولة الفلسطينية.
فرنسا، بقيادة إيمانويل ماكرون، أعلنت استعدادها للاعتراف الرسمي “في الوقت المناسب”، فيما مضت كل من إسبانيا، أيرلندا، وسلوفينيا في خطوات فعلية نحو الاعتراف، في حين تتصاعد الضغوط داخل البرلمانات الأوروبية – مثل بلجيكا وهولندا – لاتخاذ قرارات مماثلة.
هذا الزخم السياسي، غير المسبوق منذ عقود، جاء بعد انكشاف هول الجرائم الإسرائيلية في غزة: المجازر، والتجويع الممنهج، والتدمير الكلي للبنية التحتية، والاستهداف الممنهج للصحفيين والعاملين في المجال الإنساني، ما دفع الرأي العام الغربي للمطالبة بكسر الصمت والدفع نحو حل سياسي عادل.
ولم يكن غريبًا أن تخرج شخصيات أوروبية بارزة – من نواب ومفكرين ووزراء سابقين – لتدين “السياسة الإسرائيلية الإجرامية”، وتُطالب حكوماتها بوقف الدعم غير المشروط لتل أبيب.
انتصار رمزي في ميزان المقاومة
في سياق الحرب الطويلة، يُمكن النظر إلى الاعتراف الغربي بفلسطين كـ”نصر رمزي” للمقاومة، وبخاصة معركة “طوفان الأقصى”، التي وإن كانت عسكريةً في ظاهرها، فإنها خلّفت آثارًا سياسية عميقة، أهمها إعادة تدويل الصراع وفتح جبهات قانونية وأخلاقية ضد الاحتلال.
لقد انتقلت صورة الفلسطيني من “الضحية الصامتة” أو “الطرف المُلام” في الإعلام الغربي، إلى رمز للمقاومة في مواجهة استعمار متغوّل. وبرزت أصوات تُقارن بين ما يجري في غزة، ومآسي سابقة مثل سريبرينيتسا أو جنوب أفريقيا في عهد الأبارتهايد.
وهنا لا بد من الإشارة إلى أن الخطاب الفلسطيني – السياسي والإعلامي – استفاد من لحظة “طوفان الأقصى” ليفرض روايته في الأوساط الغربية، مستفيدًا من نشاط الجاليات، والتقارير الحقوقية، وانكشاف ازدواجية المعايير الغربية في التعاطي مع الحقوق.
ضغوط أمريكية – إسرائيلية مضادة
بالطبع، لم تأت هذه الاعترافات من فراغ، ولم تمر دون ضغوط. فإسرائيل مدعومة من واشنطن حاولت احتواء هذه التحولات عبر تهديدات مبطنة للدول الأوروبية، وادعاء أن “الاعتراف الأحادي” يقوّض فرص السلام.
كما حاولت الولايات المتحدة استخدام نفوذها لفرملة بعض التحركات في مجلس الأمن أو داخل الاتحاد الأوروبي.
لكن يبدو أن التغيرات الجارية في الرأي العام الغربي، خاصة بعد المجاعة والدمار في غزة، تجاوزت قدرة واشنطن على احتواء المد المتصاعد لصالح الحق الفلسطيني، لا سيما في ظل انقسام داخلي متزايد حول جدوى الدعم المفتوح لإسرائيل.
نهاية حقبة.. أم بداية جديدة؟
يبقى السؤال مطروحًا: هل يشكّل الاعتراف الأوروبي بدولة فلسطين مجرد خطوة رمزية، أم بداية لتحول فعلي في موازين القوى الدولية؟
الإجابة ترتبط بسياق أوسع: فالقضية الفلسطينية لم تعد مجرد ملف “نزاع حدودي”، بل باتت – بعد “طوفان الأقصى” – قضية عدالة إنسانية وحقوقية ذات أبعاد دولية. والمقاومة الفلسطينية لم تعد محاصرة بغزة، بل باتت تحاصر دولة الاحتلال أخلاقيًا وسياسيًا في المحافل الدولية.
وقد لا يُترجم الاعتراف الأوروبي على الفور إلى واقع سياسي على الأرض، في ظل استمرار الاحتلال والانقسام الفلسطيني. لكنّ الأكيد أنه يشكّل رصيدا معنويًا واستراتيجيًا للمشروع الوطني الفلسطيني، وضربة متأخرة ولكن مؤثرة لإرث بلفور الاستعماري.
إذ تحوّلت معركة “طوفان الأقصى” من لحظة عسكرية إلى نقطة تحول استراتيجية، جعلت من فكرة الدولة الفلسطينية – التي كانت تُوصف سابقًا بـ”الوهم” – مسألة واقعية، ولو على الورق في البداية. وفي السياسة، تبدأ الانتصارات دومًا بالاعتراف.. حتى لو جاء بعد قرن من الظلم.