معبر رفح.. وسيلة إذلال إسرائيلية ومصدر تكسب مصري خلال حرب غزة

بينما يعيش أكثر من 2 مليون فلسطيني في قطاع غزة أسوأ كارثة إنسانية في تاريخهم المعاصر، تحول معبر رفح الحدودي بين مصر وغزة من شريان حياة مأمول إلى أداة إذلال سياسي وابتزاز اقتصادي، تُستخدم لمعاقبة الفلسطينيين، والتربح من آلامهم، والتواطؤ – بصمتٍ أو صراحة – مع سياسات الاحتلال الإسرائيلي التي تسعى إلى إخضاع القطاع وتجويعه.
وفي خضم حرب الإبادة الإسرائيلية المتواصلة على غزة منذ أكتوبر 2023، التي حصدت أرواح عشرات الآلاف ودفعت القطاع نحو مجاعة شاملة، بقي معبر رفح مغلقًا أمام الغالبية الساحقة من سكان غزة، ولم يُفتح إلا استثنائيًا وبشروط قاسية، تحولت فيها الإنسانية إلى سلعة، والممرات إلى مصادر دخل غير معلنة.
حصار مزدوج: من الشمال والجنوب
لطالما اشتكى الفلسطينيون من الحصار الإسرائيلي المفروض برًا وبحرًا وجوًا، لكن ما بات جليًا اليوم هو أن الجانب المصري، الذي يتحكم في معبر رفح، أصبح شريكًا فعليًا في إدارة الحصار، ليس فقط عبر الإغلاق الممنهج.
بل كذلك من خلال فرض رسوم مالية باهظة على من يُسمح لهم بالخروج، وتحويل المعبر إلى بوابة انتقائية لتمرير من يخضعون للمعايير الأمنية أو القادرين على الدفع.
فعلى مدار الأشهر الماضية، كشفت تقارير موثوقة أن السلطات المصرية – من خلال وسطاء وشركات سفر مقرّبة من الأجهزة الأمنية – تفرض رسومًا قد تصل من 5 إلى 10 آلاف دولار للفرد الواحد مقابل الخروج من غزة عبر المعبر.
أما المرضى والجرحى والنساء والأطفال، فليسوا في منأى عن هذا الاستغلال، إذ لا يُسمح لهم بالعبور إلا بعد دفع مبالغ تتجاوز قدرة أي عائلة غزّية على الاحتمال.
الإغلاق.. أداة سياسية بيد القاهرة
لا يقتصر دور مصر على إدارة المعبر من الجانب اللوجستي فقط، بل باتت تستخدم معبر رفح كأداة ضغط سياسي على الفصائل الفلسطينية وعلى سكان القطاع عمومًا.
فكلما تعثرت مفاوضات التهدئة، أو ارتفعت لهجة المقاومة، بادرت القاهرة إلى إغلاق المعبر بالكامل، في ما يُشبه العقوبة الجماعية، دون إعلان رسمي أو تفسير إنساني.
هذا النمط من السلوك السياسي لا يمكن فصله عن علاقة مصر المعقدة بالملف الفلسطيني، لا سيما مع تبنّيها لرؤية متقاطعة مع المصالح الأمنية الإسرائيلية في محاربة فصائل المقاومة، وتحديدًا حركة حماس.
وفي كل جولة تصعيد، يتكرر المشهد ذاته: تفرض إسرائيل الحصار من الشمال، وتكرس مصر إغلاق البوابة من الجنوب، ويُترك سكان غزة يواجهون الموت جوعًا وقصفًا وعزلةً.
تجارة في زمن المجاعة
تحوّل معبر رفح في الأشهر الأولى لحرب الإبادة الإسرائيلية إلى “سوق سوداء للنجاة”، حيث يدفع الفلسطينيون أموالًا طائلة للخروج من الجحيم، سواء للعلاج أو للالتحاق بذويهم في الخارج أو للهروب من الموت.
وباتت شركة يا هلا المصرية للسفر والمرتبطة بالمعبر مصدرًا للثراء السريع، يُقال إنها تعمل بتنسيق مباشر مع أجهزة أمنية مصرية، وتتحكم في القوائم، وتختار من يُسمح له بالعبور وفق اعتبارات سياسية أو مادية.
المفارقة أن هذا النمط من الابتزاز يجري في وقت تعاني فيه غزة من شلل اقتصادي تام، وانعدام تام للأمن الغذائي، وارتفاع غير مسبوق في معدلات الفقر والبطالة، ما يجعل الدفع لعبور المعبر حكرًا على فئات ضيقة، بينما يُترك ملايين المحاصرين خلف الأسلاك.
صمت دولي… وتواطؤ إقليمي
رغم فداحة الوضع، تُقابل هذه السياسات بصمت دولي شبه كامل، وبتجاهل منظم من المؤسسات الأممية التي لا تمارس أي ضغط فعلي على مصر لإبقاء المعبر مفتوحًا أو لضمان مرور آمن وعادل للفلسطينيين.
أما الدول العربية، فمعظمها إمّا صامت أو متورط ضمنيًا، وسط مناخ إقليمي يتماهى مع رؤية التطبيع والانفصال عن القضية الفلسطينية، بل وربما يسعى إلى إخضاع غزة تمهيدًا لمرحلة “ما بعد المقاومة”، كما تُخطط تل أبيب وواشنطن.
المعبر بين الاستقلال والسيادة
منذ سنوات، يُنظر إلى معبر رفح باعتباره نافذة غزة الوحيدة على العالم بعيدًا عن تحكم الاحتلال.
لكن ما يجري الآن يطرح تساؤلات مؤلمة: هل انتقل المعبر من سيادة إسرائيلية إلى سيادة مشتركة؟ أم بات أداة في يد أطراف عربية تفرض أجندتها على أهل القطاع؟
لقد فشلت كافة الجهود الفلسطينية والدولية حتى اليوم في ضمان فتح دائم وغير مشروط للمعبر، وفق ما تنص عليه الاتفاقيات الدولية التي تؤكد على حرية التنقل والحركة للشعوب الواقعة تحت الاحتلال.
وبدلًا من أن يكون المعبر أداة لإنهاء الحصار، أصبح جزءًا من أدواته، بل وأداة قمعٍ إضافية تُمارس باسم “السيادة المصرية”.
معبرٌ بلا رحمة
في ظل العدوان الإسرائيلي المستمر، والمجاعة المتفاقمة، والمعاناة اليومية لسكان غزة، لم يعد معبر رفح مجرد نقطة حدودية، بل رمزًا متعدد الأوجه للإذلال والتربّح والصمت.
هو بوابة الخروج من الجحيم، لكنها بوابة مشروطة، باهظة الثمن، ومفتوحة فقط لمن يدفع أو يخضع.
وحتى إشعار آخر، يظل المعبر شاهدًا على تواطؤ يتجاوز الصمت إلى الفعل، ويتجاوز الحياد إلى الشراكة الفعلية في جريمة الحصار، فيما يواصل سكان غزة دفع الثمن وحدهم – من حياتهم وكرامتهم ومستقبلهم.