خطاب السلطة عن معرفة الاحتلال المسبقة بعملية 7 أكتوبر: أزمة ثقة وانهيار مشروع

منذ اللحظة الأولى لعملية “طوفان الأقصى” في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، بدا واضحًا أن السلطة الفلسطينية وجهازها الإعلامي غير قادرين على استيعاب الصدمة.
فبدلًا من الانحياز إلى روح المقاومة، اختارت أبواق السلطة فتح معركة موازية في الخطاب، عبر روايات تزعم أن الاحتلال كان على علم مسبق بالعملية وتركها تمر لأهداف خفية. هذه السردية لم تكن مجرد اجتهاد إعلامي، بل تعبيرًا عن أزمة ثقة وانهيار مشروع سياسي عمره ثلاثة عقود.
السلطة الفلسطينية ويكيبيديا
إعلام السلطة الرسمي وبعض الشخصيات القيادية في حركة فتح رددوا مرارًا أن “(إسرائيل) كانت تعلم ولم تتحرك” في مواجهة هجوم طوفان الأقصى.
فقد صرّح أمين سر اللجنة المركزية لفتح جبريل الرجوب في مقابلة مع قناة تلفزيونية أن ما جرى “جزء من لعبة إسرائيلية لإعادة خلط الأوراق”، فيما نشرت بعض الصحف المحسوبة على السلطة تحليلات بعنوان “لماذا سمحت (إسرائيل) بحدوث 7 أكتوبر؟”.
هذه التصريحات عمّقت الهوة مع الشارع الفلسطيني، الذي رأى بعينيه حالة الذهول والانهيار الأمني الإسرائيلي.
وبدلًا من تعزيز الثقة بخيار المقاومة، ظهر خطاب السلطة كأنه إهانة لوعي الشعب الفلسطيني، ما دفع كثيرين إلى اعتبارها أداة لإعادة تدوير الدعاية الإسرائيلية أكثر من كونها ممثلًا للشعب.
انهيار مشروع السلطة
منذ توقيع اتفاق أوسلو (1993)، روّجت السلطة لنهج “المفاوضات طريق الدولة”. لكن الواقع جاء عكس كل الوعود:
توسع الاستيطان أضعاف ما كان عليه قبل أوسلو.
القدس المحتلة جرى تهويدها تدريجيًا تحت صمت رسمي.
السلطة نفسها تآكلت شرعيتها عبر الفساد والارتهان الأمني.
في هذا السياق، أي إنجاز للمقاومة يعني إعلان وفاة مشروع السلطة. لذلك، فإن محاولتها التشكيك بعملية 7 أكتوبر ليست إلا محاولة يائسة لتغطية فشلها التاريخي.
عجز السلطة الفلسطينية
أظهرت تجارب الماضي أن أي صفقة أسـرى أو هدنة برعاية دولية تنجزها المقاومة، تفضح عجز السلطة.
وبعد 7 أكتوبر، بات واضحًا أن أي اتفاق لتبادل الأسرى سيكون برعاية المقاومة فقط، ما يجعل السلطة خارج المشهد بالكامل.
لذلك، تحاول السلطة عبر أبواقها القول إن “أي صفقة مرتبة إسرائيليًا”، حتى لا يظهر عجزها أمام الرأي العام. لكن هذه اللغة لا تفعل سوى تسريع موتها السياسي.
ومن أخطر ما يميز خطاب السلطة هو تطابقه مع رواية الاحتلال.
القياديون في السلطة مثل محمود الهباش، ركزوا على أن “مغامرات المقاومة جرت الكارثة على غزة”، وهي جملة تتطابق مع التصريحات الإسرائيلية.
وفي الضفة الغربية، واصلت الأجهزة الأمنية حملاتها ضد النشطاء، حتى في الأيام التي كانت غزة تتعرض لأعنف المجازر.
ووثقت تقارير حقوقية أن أجهزة السلطة سلمت مقاومين مطلوبين إلى الاحتلال بعد أكتوبر، وهو ما اعتبره كثيرون دليلًا قاطعًا على عمالتها الأمنية.
هذا الاصطفاف جعل الإعلام الفتحاوي يفقد أي صدقية، خصوصًا حين ينشر مقالات في صحف عربية تتبنى الرواية الإسرائيلية بحذافيرها.
كسب المقاومة للتأييد الشعبي
على النقيض، عززت عملية 7 أكتوبر مكانة المقاومة شعبيًا:
مشاهد اقتحام المستوطنات ومقتل جنود إسرائيليين كانت لحظة تاريخية في وعي الفلسطينيين.
استطلاعات رأي محلية بعد العملية أظهرت ارتفاعًا غير مسبوق في تأييد خيار المقاومة، وتراجعًا حادًا في ثقة الناس بالسلطة.
المقاومة أثبتت أنها قادرة على تحريك ملفات مجمدة، مثل قضية الأسرى، بينما السلطة لا تملك سوى التلويح ببيانات الشجب.
بموازاة ذلك فإن إعلام السلطة وفتح حاول استثمار الخسائر الإنسانية في غزة بطريقة مريبة:
بدلاً من تحميل الاحتلال المسؤولية عن المجازر، ركز على تحميل المقاومة مسؤولية “إدخال غزة في معركة غير محسوبة”.
وكالة “وفا” الرسمية نشرت تقارير عدة تركز على “كلفة المواجهة”، متجاهلة أن الاحتلال هو من أصل العدوان.
بعض مذيعي الفضائيات المقربة من السلطة أعادوا نشر مقاطع إسرائيلية تدّعي أن حماس “اختطفت غزة” وجرّت الشعب إلى الجحيم.
هذا الخطاب لم ينجح في تقويض التفاف الشارع حول المقاومة، بل عزز الشعور بأن السلطة شريك في الحصار وليست ضحية له.
وبحسب مراقبين لا ينفصل كل ما سبق عن البنية الوظيفية للسلطة:
تمويلها مرهون ببقاء التنسيق الأمني مع الاحتلال.
استمرارها كجهاز بيروقراطي يخدم مصالح فئة ضيقة من النخب، لا تطلعات الشعب.
استخدامها ورقة غزة وسلاح المقاومة للابتزاز السياسي داخليًا وخارجيًا، حيث تحاول تصوير نفسها “البديل المسؤول” في أي مرحلة ما بعد الحرب.
لكن الواقع أن الفلسطينيين يدركون أن هذا السلوك خيانة وطنية مغلفة بشعارات حزبية وأن السلطة التي فقدت ثقة الشارع وانتهى مشروعها السياسي، لم يعد لها سوى تشويه إنجاز المقاومة والتماهي مع خطاب الاحتلال.
في المقابل، بات واضحًا أن المعادلة الشعبية والسياسية انقلبت: المقاومة تكسب ثقة الشارع وتعيد فرض نفسها كعنوان للقضية الفلسطينية، فيما تغرق السلطة أكثر في مستنقع العمالة والارتهان.