إدخال كميات محدودة من الفواكه لغزة بأسعار خيالية: تجميل للمجاعة أم تضليل إعلامي؟

رغم استمرار المجاعة المروعة في قطاع غزة وانعدام الأمن الغذائي لدى معظم سكانه، ظهرت في الساعات الأخيرة في بعض الأسواق المحلية كميات ضئيلة من الفواكه النادرة التي غابت عن موائد الغزيين على مدار أشهر حرب الإبادة الإسرائيلية، لكنها بيعت بأسعار خيالية لا يستطيع معظم السكان حتى مجرد التفكير في شرائها.
هذه الظاهرة التي بدت للوهلة الأولى كـ”عودة جزئية للحياة الطبيعية”، سرعان ما انكشفت حقيقتها، باعتبارها محاولة مكشوفة لتبييض وجه الاحتلال وتضليل الرأي العام الدولي عبر ضخ رمزي لبضائع فاخرة بغرض كسر صورة المجاعة الحقيقية التي تضرب القطاع منذ شهور.
فاكهة بنكهة الاستفزاز
المواطن الغزي “م.س”، وثّق تجربته في منشور تداوله الآلاف على وسائل التواصل الاجتماعي، قائلاً: “جربت أفوت على بسطة عليها فاكهة المانجا والأنجاص، والتي لم نذق طعمهما منذ سنتين. سألت البائع: بكم الكيلو؟ أجابني: 250 شيكل للكيلو الواحد! يعني ما يقارب 76 دولاراً”.
ويضيف ممازحًا بسخرية ممزوجة بالقهر: “قمت بوضع حبة من كل صنف على الميزان، وسألت بكم بطلعوا؟ أجابني: 120 شيكل! يعني سعر حبتين فاكهة 36 دولارًا. هذه الصدمة كانت كفيلة بإعادة عقلي لوضعه الطبيعي”.
وتابع منشوره منتقدًا الروايات الإسرائيلية التي تستغل هذه المشاهد المحدودة لتسويق أن “غزة لم تعد جائعة”، قائلاً: “وبتلاقي ناس من برا بيقولك: دخّلولكم فاكهة وأكل، وخلصت المجاعة!”.
تزييف إعلامي و”استعراضات استهلاكية”
تؤكد منظمات حقوقية ومصادر داخلية في غزة أن عملية إدخال هذه الأصناف النادرة تمت بشكل انتقائي ومر عبر تنسيق خاص، ولم تشمل سوى كميات لا تتجاوز العشرات من الكيلوغرامات، جرى عرضها في نقاط بيع محددة ولشريحة ضئيلة من القادرين ماليًا، أو لأغراض دعائية.
وأكد مختصون اقتصاديون أن هذه الخطوة مجرد استعراض استهلاكي يهدف إلى تمرير صورة زائفة للعالم الخارجي بأن الوضع في غزة بدأ يتحسن.
إذ أن إدخال بضعة صناديق مانجا لا يغيّر شيئًا في واقع أكثر من 2 مليون نسمة يعيش أكثر من 90% منهم تحت خط الجوع، بل يثير الغضب أكثر لأنه استهتار بمعاناة السكان.
وعليه فإن ما نشهده في قطاع غزة ليس مجرد أزمة غذائية، بل سياسة تجويع ممنهجة، وأي محاولة لتزيين الواقع عبر فواكه فاخرة لا تخدع سوى من يريد أن ينخدع.
المجاعة: حقيقة يومية لا ينكرها إلا من تعمّد الإنكار
بحسب بيانات برنامج الأغذية العالمي، فإن أكثر من نصف سكان غزة يواجهون “جوعًا حادًا من المستوى الخامس”، وهو أعلى درجات انعدام الأمن الغذائي التي تسبق المجاعة الكاملة.
كما تشير تقارير أممية إلى أن الأطفال يعانون من نقص حاد في العناصر الغذائية الأساسية، مع تزايد حالات الوفاة المرتبطة بالجوع وسوء التغذية.
الأسواق الغزية التي كانت تعج بالخضروات والفواكه الموسمية باتت شبه خالية.
ويقول أبو خالد، وهو صاحب بسطة خضار في مدينة غزة: “زمان كنت أبيع 15 صنف يوميًا، اليوم إذا حصلت على خمس كراتين بطاطا أو طماطم أكون محظوظ. وكل شيء سعره نار. الفقير ما بطوّل عندي، بس بسأل وبيمشي”.
أما سعاد، وهي أم لخمسة أطفال، فتقول: “صارت الفواكه حلم. حتى البندورة والبطاطا منحسب حسابها. ولما ابني بيطلب موز، بقله إن شاء الله لما نرجع على الجنة”.
الترويج الخادع: ما وراء الصور المنتقاة
الصور التي تروّج لها وسائل الإعلام الإسرائيلية وبعض الحسابات الداعمة لها تُظهر فواكه معروضة داخل غزة وترافقها تعليقات من نوع “هذه غزة الجائعة؟”، في محاولة لنفي التهم المتصاعدة بأن الاحتلال يتعمد تجويع السكان، وهي تهم وصلت إلى محكمة العدل الدولية التي تنظر في احتمال وقوع “إبادة جماعية” بحق الفلسطينيين.
لكن محللين يرون أن هذه المحاولات الإعلامية أشبه بـ”قناع مهترئ”، لا يصمد أمام الشهادات الحية والتقارير الموثقة.
ويبرز المحللون أن إسرائيل تدرك أن صورتها تتآكل عالميًا، فتبحث عن أي مخرج لتزييف الواقع، فيما إدخال فواكه استثنائية هدفه النفسي أكثر من الغذائي: أن تقول للعالم ‘انظروا، لا مجاعة هنا’. لكنها صورة مكشوفة يسهل دحضها بلقطة واحدة من مخيم دمرته الحرب أو أمّ تودّع طفلها الذي مات جوعًا.
الفاكهة لا تصنع عدالة
ما حدث في غزة خلال الأيام الماضية لا يمكن أن يُقرأ بمعزل عن السياق السياسي العام. فإدخال المانجا والأنجاص بأسعار تفوق قدرة 99% من السكان هو امتداد لسياسة الحصار، لا خروج منها. إنها محاولة لترميم صورة مكسورة، لا لإطعام جائع.
المجاعة في غزة ليست عابرة، وليست نتاج كارثة طبيعية، بل نتيجة قرار سياسي وحصار عسكري عمره أكثر من 17 عامًا، بلغ ذروته خلال الحرب الحالية.
أما إدخال بعض الفواكه الباهظة، فلا يغير الحقيقة: في غزة، يموت الناس جوعًا… فيما تُستخدم الفواكه كدعاية قاتلة.