شائعة “تسجيل السفر” كأداة حرب نفسية: لماذا يروّج الاحتلال هروبًا وهميًا لقيادات حمـاس؟

تدفع ماكينة الدعاية الإسرائيلية في ذروة الحرب النفسية والإعلامية الدائرة على وعي الفلسطينيين والرأي العام العربي، بسردية تزعم أن قيادات سياسية في حركة حمـاس أقدمت على طلب “تسجيل السفر” من داخل غزة عبر قنوات الاحتلال نفسها.
الفكرة، ببساطة، غير منطقية: أشخاص مطلوبون على لوائح الاغتيال سيضعون أسماءهم طوعًا في منظومة يتحكم بها الطرف الذي يلاحقهم؟ عسكريًا وسياسيًا، في ادعاء يناقض قواعد السرية والبديهة ليتضح أنه امتدادا لجهد ممنهج يتقاطع فيه الحصار والاغتيالات وسياسات التحكم بالحركة مع حملات تضليل رقمية متصاعدة.
أولًا، من زاوية الوقائع: تاريخ الاغتيالات “المُستهدِفة” جزء راسخ من سلوك الاحتلال تجاه قادة المقاومة داخل فلسطين وخارجها، وقد طاول شخصيات من الصفين السياسي والعسكري.
ومنذ مطلع الألفية وثّقت منظمات قانونية وحقوقية نمط هذه السياسة وسياقاتها، بما فيها استهداف قيادات في مناطق متعددة، وأن أي ظهور علني لمسؤول رفيع ــ فضلًا عن تتبّع أثره في منظومات سفر إسرائيلية ــ يعرّضه لخطر فوري ومباشر بالاستهداف.
ثانيًا، من زاوية “كيف يعمل” نظام الحركة والسفر: الخروج من غزة، تاريخيًا، مشروط بمنظومة تصاريح وضوابط تُدار بواسطة سلطات الاحتلال عبر وحدة منسّق أعمال الحكومة (COGAT) ونُظم فرعية، مع قيود شاقة على الفئات المسموح لها والوجهات والمعابر.
حتى في الفترات التهدئة في قطاع غزة، يحتاج طالب التصريح إلى مسارات تدقيق أمنية وإجرائية طويلة، وغالبًا ما تُرفض الطلبات أو تُلغى بلا تعليل.
ومنذ مايو/أيار 2024 أضيف عاملٌ آخر: السيطرة العسكرية الإسرائيلية على معبر رفح وإغلاقات متكرّرة عطّلت الحركة المدنية والإنسانية، ما يجعل الحديث عن “تسجيل قيادات مطلوبة” عبر قنوات الاحتلال ضربًا من العبث الاستخباري.
ثالثًا، من زاوية الدعاية الرقمية: تُسند هذه المزاعم عادةً بصور وثائق “مسربة”، قوائم أسماء غير متسقة، أو مقاطع صوتية منسوبة إلى موظفين ووسطاء، ويجري ضخّها عبر قنوات تليغرام وصفحات فيسبوك وحسابات على منصة “إكس” تديرها شبكات مموّهة.
وأقد أعلنت منصّات كبرى مرارًا تفكيك شبكات “سلوك زائف منسّق”، بما في ذلك حملات مرتبطة بجهات إسرائيلية خاصة تستهدف تشكيل الانطباعات لدى الجمهور الغربي والعربي على السواء.
حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة
من المفيد التذكير بأن وحدة 8200 هي الذراع الأبرز في منظومة الاستخبارات الإشارية والحرب السيبرانية الإسرائيلية؛ وقد وثّقت دراسات مستقلّة بنيتها وأدوارها، فيما أظهرت تقارير صحفية وتقييمات شركات تقنية أنّ حملات تأثير رقمية مرتبطة بجهات إسرائيلية جرى تعطيلها مؤخّرًا. هذا كلّه يرسم بيئة خصبة لتصنيع شائعات الهروب وتوليف أدلّة مزيفة تبدو إجرائية.
وهنا تتضح الوظيفة المزدوجة للشائعة:
تحريض اجتماعي داخلي: استثارة غضب الجمهور المثقل بالجوع والنزوح والقتل على الحركة، بإيحاء أن قياداتها “تتركهم في النار” وتخونهم عند أول منفذ.
ضرب المعنويات التنظيمية: بثّ الإحباط بين الأنصار والكوادر على قاعدة “شاهدوا قادتكم يهربون”، بما يحقّق مكاسب نفسية للخصم دون كلفة عسكرية.
لكن تفكيك السردية لا يقتصر على التشكيك المنطقي؛ بل يستند إلى حقائق تشغيلية:
تعقيد المسارات: منظومات التصاريح التي يتحكم بها الاحتلال تُصمَّم ابتداءً للغربلة الأمنية؛ أي اسم رفيع على لوائح الاستهداف لن يمرّ عبرها إلا كمصيدة.
إغلاق المعابر/السيطرة المتغيرة: واقع السيطرة على رفح، وتعطّل معابر الحركة، وتقلّب “الممرات” المؤقتة يزيد عدم معقولية مزاعم عبور شخصيات مطلوبة عبر إجراءات رسمية مُعلنة.
سجل الاغتيالات: سياسة الاغتيال العابرة للحدود تجعل “التسجيل العلني” عملًا انتحاريًا لا يفعله إلا حساب وهمي أو خصم يريد أن يُرى.
ولأن هذه الحرب تُدار على الوعي بقدر ما تُدار بالنار، تُصبح “المقاومة المعرفية” ضرورة.
بهذا السياق جاء تحذير المكتب الإعلامي الحكومي في غزة من حملات التضليل التي تُديرها أجهزة الاحتلال، ومن بينها وحدات متخصّصة ك”8200″، لتنبيه الجمهور إلى أن ثمة أفرادًا وشبكاتٍ وأدواتٍ مُجنّدة تُعيد تدوير الأكاذيب في دوائر مغلقة بهدف تكثير الصدى.
وعلى الجانب المهني، سجّلت مؤسسات رصد وتحليل الإعلام تزايد التلاعب بالسياقات والاقتباسات، بما يسهّل تمرير رسائل الحرب النفسية على أنها “معلومات محايدة”.
وعليه فإن دعاية “قيادات تُسجّل سفرًا عبر الاحتلال” لا تصمد أمام اختبار المنطق، ولا أمام واقع السيطرة على المعابر، ولا أمام سجل الاغتيالات الإسرائيلية الذي يجعل أي خطوة علنية كهذه مخاطرة قاتلة.
إذ أن وظيفتها الأساسية تحطيم الثقة ونسف المعنويات عبر قصة سهلة الهضم. والردّ المهني عليها يبدأ من رفض تحويل الشائعة إلى “خبر”، وتعزيز عادات التحقّق، وربط أي ادّعاء ببُناه الإجرائية والأمنية الفعلية، لا بما تصنعه غرف العمليات الرقمية.