تحليلات واراء

“الشرق الأوسط” تتبنّى سردية جيش الاحتلال… ومراسلها في رام الله نموذج صارخ

أثار العنوان الذي تصدّر موقع صحيفة “الشرق الأوسط” مساء 16 سبتمبر/أيلول “إسرائيل تبدأ اجتياح عاصمة حماس… وتساوم على تسليم الرهائن والسلاح”، انتقادات واسعة ضد الصحيفة ومراسلها في رام الله على خلفية ما أظهرته من تبني لسردية جيش الاحتلال.

وأكد نشطاء ومختصون أن عنوان الصحيفة المذكور ليس مجرد صياغة قاسية؛ بل بيان تعبوي ينسجم حرفيًا مع القاموس العسكري الإسرائيلي، حيث تُختزل مدينة يسكنها مئات الآلاف إلى “عاصمة حماس” يجب “إسقاطها” بالتفاوض تحت فوهة الدبابة.

ويبرز أن مادة الصحيفة المذيلة بتوقيع مراسلها في رام الله، كفاح زبون، قدمت رواية ميدانية قائمة على أرقام الجيش وقادته ووحداته (الفرق 98 و162 و36، تقدير 2500 مقاتل… إلخ)، بما يجعلها أقرب إلى موجز عمليات صادر عن “المتحدث” منه إلى مادة صحفية مهنية متوازنة.

صحيفة الشرق الأوسط ويكيبيديا

إشكالية النص لا تقف عند العنوان؛ فبنيته الداخلية تُصعّد مركزية المنظور العسكري الإسرائيلي: “هزيمة لواء مدينة غزة”، “توسيع المناورة”، “المسار الوحيد الآمن”.

في المقابل تجاهلت الصحيفة الوضع الإنساني – إن ظهر – إلا كهوامش متأخرة لا تغيّر الإطار العام الذي يطبّع مع فكرة أن المدينة “رمز حكم حماس” وبالتالي فـ“سقوطها” هدف مشروع.

وتشير الصحيفة في آخر المادة إلى إدانات أممية وأوروبية، لكن ذلك يأتي كزينة بلاغية بعد أن تكون الرسالة الأساس قد مُرِّرت: القضية عسكرية أولاً وأخيرًا. هذه ليست زلة تحريرية؛ إنها خيار صياغي واعٍ يزاحم المعلومة الإنسانية ويؤطِّرها داخل أولويات الجيش.

والأخطر أن هذا ليس استثناءً في تغطية “الشرق الأوسط” ولا في أسلوب مراسلها ذاته. فقبل ذلك بعام قريبًا، نشر كفاح زبون مادة عن معركة “مجمع الشفاء” حملت ادعاءً قاطعًا بأن “قيادات القسام تتحصن” داخل المستشفى.

كما قدّم زبون المعركة كاشتباك مع “قيادات” ترفض الاستسلام، في صياغة تعيد تدوير مزاعم الجيش حول “طبيعة” المكان، وتضع جمهور القرّاء على سكة تبرير اقتحام مرفق طبي هو الأكبر في القطاع. هذا النوع من السرد يُسهِّل – موضوعيًا – تبرير عمليات دامية ضد البنية الصحية.

وحصيلة ما حصل في الشفاء لاحقًا موثّقة: بعثات منظمة الصحة العالمية وصفت المستشفى بعد الاقتحامات بأنه “خراب” مع مقابر سطحية وجثث متناثرة، فيما نقلت وكالات أممية وإعلام دولي استمرار القتال حوله وسقوط ضحايا وتدهوراً حادًا في الرعاية، وكل ذلك وسط أرقامٍ متضاربة من الجيش وإفادات محلية عن وفيات وإعدامات مزعومة.

أي أن المكان الذي صُوِّر كقلعة عسكرية عاد ركامًا ومقبرةً مفتوحة، بينما ظلّت أدلة “التحصّن القيادي” محل نزاع وتسييس. هنا تصبح مسؤولية التحرير مضاعفة: لا تكرّر رواية طرفٍ مسلّح بل اختبرها ووازنها وعرِّف القارئ بحدودها.

الحرب النفسية الإسرائيلية

على الضفة الأخرى، يعرض أرشيف كفاح زبون في موقع الصحيفة سلسلة عناوين بالمنوال ذاته خلال الأسابيع الأخيرة من “خطة من 3 مراحل للهجوم على مدينة غزة” إلى “إسرائيل تجتاح غزة… واتهام أممي بالإبادة”.

ويؤكد مراقبون أن هذا التواتر ليس بريئًا: إنه تثبيت لنموذج تغطيـة يوسّع شاشة الجيش وينكمش فيها الناس. إصلاح هذا الخلل لا يتم بتذييل النص بجملة منسوبة لمسؤول أممي في آخر الفقرة، بل بإعادة ترتيب أولويات السرد: من السلاح إلى الإنسان، من “الاجتياح” إلى “النجاة”.

وإذا كان معيار المهنية يقتضي تحرّي المصادر وتعدّدها، فإن الصحيفة ذهبت أبعد في الاصطفاف مع “المصدر الأمني” عبر إفراد مساحات لـ“مصادر للشرق الأوسط” عن استهداف قادة حماس في الدوحة، تتحدث بثقة عن مصابين من المكتب السياسي يتلقّون العلاج وسط حراسة.

يتم كل ذلك من دون إسناد مستقل أو قدر كاف من الشك المهني إزاء رواية طرف لديه مصلحة مباشرة في تضخيم إنجاز عملياتي يصفه خبراء إسرائيليون أنفسهم بالفشل. هذه ليست “انفرادات”؛ هذا تسويق للمعلومة الأمنية في ثوب صحفي.

خلاصة القول: “الشرق الأوسط” ومعها مراسلها في رام الله يؤسسان لمدرسة تغطية تضع “العدسة العسكرية” معيارًا وحيدًا لفهم غزة؛ مدينة ترى من فوهة دبابة، وناس يذكرون كأرقام نزوح على “شارع الرشيد”، ومستشفيات تُختزل إلى “مخابئ” قبل أن تُسوى بالأرض.

هذا خط تحرير يخذل القارئ العربي ويحوّل الصحافة إلى “ملف أحمر” في غرفة عمليات، ويمنح آلة الحرب لغةً عربية سلسة ومقبولة.

وبحسب مراقبين فإن التصحيح يبدأ بالاعتراف بأن غزة ليست “عاصمة حماس” بل موطن بشر، وبأن “المساومة” الحقيقية هي على حياة المدنيين لا على “تسليم السلاح”.

فالمطلوب ليس “توازنًا حسابيًا” بين روايتين، بل انحياز مهني صارم للحقيقة: تحقُّقٌ من الادعاءات، مركزيةُ الأثر الإنساني، ومساءلةٌ مستمرة للغة التي تزيّف الواقع وتُشرعن الفظائع. دون ذلك، لن تختلف هذه الصحافة – مهما تلونت – عن نشرة ناطق عسكري إسرائيلي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى