الإمارات وغزة: مؤامرات وأدوار خفية تخدم الاحتلال وخططه العدوانية

في خضم المأساة الإنسانية المتفاقمة في غزة وحرب الإبادة الجماعية الإسرائيلية المتمرة منذ عامين، برزت الإمارات العربية المتحدة كطرف إقليمي عبر مواقف معلنة وأدوار خفية تصب في خانة التحالف مع الاحتلال والتآمر على الفلسطينيين ومقاومتهم.
فعلى الرغم من علاقاتها التطبيعية مع دولة الاحتلال منذ 2020، حرصت أبوظبي إعلاميا على تأكيد دعمها العلني للفلسطينيين وتقديم المساعدات، بينما شاركت في الوقت نفسه في ترتيبات دبلوماسية وأمنية خلف الأبواب المغلقة تتعلق بمستقبل غزة.
فقد أكدت الإمارات في عدة مناسبات بشكل قاطع على رفضها المطلق للتهجير القسري أو المساس بالقضية الفلسطينية، مشدّدةً أن الدفاع عن حقوق الفلسطينيين “واجب أخلاقي وإنساني وقانوني”، ودعت فورًا إلى وقف إطلاق نار شامل وإغاثة عاجلة للمدنيين، مؤكدةً أن الاستقرار الدائم رهنٌ بتحقيق حل الدولتين وإقامة دولة فلسطينية مستقلة.
ويعتبر مراقبون أن هذه المواقف العلنية تضع الإمارات ظاهريًا ضمن الصف العربي الرافض لممارسات دولة الاحتلال العدوانية مثل العقاب الجماعي والتهجير التي تُوصف بأنها جرائم حرب.
ومع ذلك، تجنّبت الإمارات تصعيد إجراءاتها ضد دولة الاحتلال بشكل جذري؛ فلم تقطع علاقاتها الدبلوماسية أو توقف التعاون الاقتصادي خلال الحرب.
وعلى الأرض، سعت الإمارات لإبراز نفسها كداعم إنساني أول للفلسطينيين خلال الأزمة الحالية. أطلقت أبوظبي عملية إغاثة شاملة تحت مسمى “الفارس الشهم”، تضمنت تقديم مساعدات غذائية وطبية عاجلة للبنية التحتية المنهارة في غزة.
مواقف الإمارات من حرب غزة
رغم الخطاب الرسمي الداعم للفلسطينيين والمساعدات السخية، يرى محللون أن سياسات الإمارات الفعلية أكثر تعقيدًا مما تبدو.
فعلى الصعيد الجيوسياسي، واصلت الإمارات التمسك بعلاقاتها التطبيعية مع دولة الاحتلال أثناء الحرب، إذ لم تقطع العلاقات الدبلوماسية أو تعلق اتفاقيات التعاون التي أُبرمت في إطار اتفاقات أبراهام.
صحيح أن وتيرة الزيارات والأنشطة التطبيعية تراجعت بشدة تحت ضغط الرأي العام العربي الغاضب من مشاهد المجازر في غزة، بل واضطرت أبوظبي لطلب استبدال السفير الإسرائيلي لديها إثر تصرّفه بشكل مسيء خلال الأزمة، إلا أنها امتنعت عن أي قطيعة رسمية، فيما استمرّت الرحلات الجوية المباشرة بين البلدين طوال فترة الحرب تقريبًا.
كما بقي التواصل الأمني والاستخباراتي قائمًا خلف الستار. يُظهر هذا أن الإمارات اختارت استراتيجية “النفس الطويل” في التطبيع؛ فهي تعتبر العلاقة مع دولة الاحتلال “قرارًا استراتيجيًا طويل الأمد” لا ينبغي التفريط به، مهما كان مؤلمًا، على حد وصف المستشار الدبلوماسي الإماراتي أنور قرقاش مطلع 2024.
وقد منح هذا الموقف الإماراتي المتمسك بالتطبيع دولة الاحتلال طمأنة نسبية بأن أبوظبي لن تنضم إلى حملة عزلها عربيًا بالكامل، الأمر الذي اعتبره البعض عاملًا غير مباشر شجّع حكومة نتنياهو على المضي في حملتها العسكرية دون خشية عزلة تامة.
في الوقت ذاته، وظّفت الإمارات علاقاتها مع جميع الأطراف لمحاولة التأثير في صياغة مآلات غزة بعد الحرب. وكشفت تقارير غربية أن أبوظبي انخرطت في مشاورات خلفية مكثفة مع واشنطن وتل أبيب حول سيناريوهات اليوم التالي في غزة تقوم في مجملها على إقصاء فصائل المقاومة.
ففي تسريب حصري نشرته وكالة رويترز (يناير 2025) تبيّن أن الإمارات بحثت مع مسؤولين أمريكيين وإسرائيليين فكرة إدارة مؤقتة لغزة تشارك فيها هي والولايات المتحدة ودول أخرى لفترة انتقالية، إلى حين تمكن السلطة الفلسطينية المُعاد هيكلتها من تولي زمام الأمور.
وبحسب المصادر الدبلوماسية، اقترحت الإمارات أن تشمل الخطة قوة حفظ سلام دولية (ربما عبر شركات أمنية خاصة) لضبط الأمن، مع إشراف على إعادة الإعمار وبناء مؤسسات حكم جديدة في غزة مع إقصاء كامل لفصائل المقاومة.
وينسجم هذا الموقف مع ما تعلنه أبوظبي ظاهريًا من تمسّك بهدف حل الدولتين، لكنه يتقاطع أيضًا مع مصلحة الإمارات في تحجيم نفوذ حركة حماس وفصائل المقاومة وتمكين قيادة فلسطينية جديدة “أكثر اعتدالًا”.
وقد روجت وسائل إعلام إماراتية مرارا أن محمد دحلان – القيادي الفتحاوي المفصول والمستشار الأمني المقيم في أبوظبي – “قد يكون مرشحًا للعب دور في حكم غزة” بعد القضاء على حماس وفصائل المقاومة، وهو طرح يتماشى مع رؤية الإمارات الداعمة لوجوه فلسطينية معارضة للإسلاميين.
التطبيع الإماراتي الإسرائيلي
ظهر التباين الإماراتي في الأقوال والأفعال للسطح بوضوح في فبراير 2025، عندما فجّر السفير الإماراتي في واشنطن يوسف العتيبة مفاجأة بتصريح اعتبره كثيرون ضوءًا أخضر مبطّنًا لمشروع التهجير. فخلال مشاركته في قمة الحكومات العالمية بدبي، سُئل العتيبة إن كانت لدى الإمارات خطة بديلة لرؤية الإدارة الأمريكية (في عهد ترامب) بشأن غزة، فأجاب بالحرف: “لا أرى بديلًا عمّا يُطرح… فعلاً لا أرى”، وأقرّ بأن أبوظبي “ستحاول إيجاد أرضية مشتركة” مع البيت الأبيض بخصوص غزة رغم صعوبة الطرح الأمريكي.
وفي حينه جاء تصريح السفير الإماراتي وسط تداول خطة أعلنها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تقضي بتحويل غزة إلى “ريفيرا الشرق الأوسط” بعد تفريغها من سكانها، أي مشروع قائم على اقتلاع نحو مليوني فلسطيني من القطاع وإعادة توطينهم خارجه.
وأثار كلام العتيبة صدمة؛ إذ فُهم بأنه تبنٍ إماراتي ضمني لخطة ترحيل السكان التي رفضتها علنًا دول الجوار مثل مصر والأردن.
وفي حينه وصفت صحيفة لوموند الفرنسية الموقف الإماراتي بأنه كسر إماراتي للإجماع العربي ضد خطة ترامب، ورأت في موقف العتيبة دليلاً على “اللعبة الثلاثية” التي تنتهجها الإمارات في ملف غزة عبر شراكة استراتيجية مع إسرائيل، وتأييد لفظي للموقف العربي الرافض للتهجير، مع الترويج بهدوء للتصور الأمريكي الإسرائيلي بشأن مستقبل غزة.
وعلى الرغم من أن أبوظبي حاولت لاحقًا التخفيف من وطأة تصريحات سفيرها بالتشديد على دعمها للخطة المصرية البديلة (إعادة إعمار غزة دون تهجير مقابل $53 مليار)، فإن الضرر كان قد وقع من ناحية الثقة في النوايا الإماراتية.
إذ بات واضحًا أن دوائر صنع القرار في الإمارات منفتحة على خيارات تتضمن نقل سكان غزة إذا تعذّرت حلول أخرى، خاصة في ظل قناعة البعض هناك بأن الحرب خلقت واقعًا جديدًا لا يمكن معه ببساطة إعادة عقارب الساعة إلى ما قبل حكم حماس.
من زاوية أخرى، هناك دلائل على تنسيق إماراتي غير مباشر مع المخططات الإسرائيلية الميدانية في غزة تحت ستار العمل الإنساني.
فقد لاحظ مراقبون أن المناطق التي ركّزت الإمارات جهودها الإغاثية فيها – كجنوب القطاع قرب رفح – تطابقت مع المناطق التي حدّدتها إسرائيل “مناطق إنسانية آمنة” لنقل السكان إليها بعيدًا عن الشمال.
على سبيل المثال، محطات تحلية المياه الست التي أقامتها الإمارات في رفح المصرية صُممت لضخ المياه إلى داخل غزة بطاقة تكفي 600 ألف شخص، وهو نفس الرقم الذي أعلنه وزير الجيش الإسرائيلي يسرائيل كاتس عند كشفه خطة إنشاء “مدينة إنسانية” مغلقة في رفح لاستيعاب 600 ألف فلسطيني كمرحلة أولى نحو تجميع كل سكان غزة هناك.
كما تزامنت أنشطة الإمارات في تلك المنطقة مع ظهور جماعة محلية مسلحة (قيل إنها مدعومة إسرائيليًا) تسيطر على أجزاء من شرق رفح بهدف “تهيئتها لاستقبال النازحين”.
ورغم أن الإمارات تطرح تحركاتها هذه بوصفها جهودًا إنسانية محضة لتخفيف معاناة الأهالي، يشير محللون إلى أنها عمليًا تُيسّر تنفيذ التصور الإسرائيلي بفصل السكان في بقعة حدودية ضيقة تحت السيطرة الإسرائيلية غير المباشرة.
وقد كشف موقع موندويس الاستقصائي معلومات عن تنسيق محتمل في هذا الصدد، موضحًا أن الإمارات ضمن عملية “الفارس الشهم 3” أقامت محطات المياه تحديدًا “في نفس المنطقة التي اختارها الجيش الإسرائيلي كمنطقة إنسانية” شرق رفح، بل وبالتكامل مع انتشار ميليشيا محلية هناك تعمل كوكيل أمني لإسرائيل.
وخلص الموقع إلى أن تطابق أرقام وخطط الإمارات مع خطط إسرائيل ليس مصادفة، وإنما يدل على مستوى من التنسيق مع الأهداف العسكرية الإسرائيلية في دفع السكان جنوبًا وحصرهم ضمن معسكر كبير تحت حراسة مشددة.
ومما يعزّز هذه الشكوك أن مناطق شمال ووسط غزة التي بقيت خارج نطاق “الرعاية” الإماراتية ظلت عرضة لقصف إسرائيلي عنيف وتجويع متعمّد لإجبار من تبقى فيها على النزوح نحو الجنوب طلبًا للطعام والماء والأمان.
بهذا المعنى، يتضح أن جهد الإمارات في إنشاء ما يسمى “مناطق آمنة” جنوبًا تُسهم فعليًا في تكريس سياسة العقاب الجماعي والتجويع التي يتبعها الاحتلال: فمن يخرج إلى تلك المناطق قد يحصل على ماء الإمارات وغذاء برامج الإغاثة الأمريكية الإسرائيلية (التي ثبت تسببها بفوضى دامية)، أما من يصر على البقاء في بيته بالشمال فمصيره القصف أو الموت جوعًا.
وعلى الرغم من أن الإمارات ليست مسؤولة مباشرة عن هذه الجرائم، إلا أن انخراطها في ترتيبات جزئية كهذه – بدلاً من المطالبة الجماعية بفك الحصار كليًا – يضعها موضع الشبهة بالتواطؤ غير المقصود مع الاستراتيجية الإسرائيلية.
في المحصّلة، رسمت الإمارات خلال حرب غزة صورة مزدوجة المعالم. فمن ناحية، وقفت علنًا ضد التهجير القسري ودعمت الفلسطينيين إنسانيًا ودبلوماسيًا، ساعيةً إلى الحفاظ على مصداقيتها العربية والوفاء بالتزاماتها الأخلاقية.
لكن من ناحية أخرى، كشفت ممارساتها الفعلية وتحركاتها الكواليسية عن براغماتية حادة في التعاطي مع الأزمة. حيث حرصت أبوظبي على حماية مكتسبات تحالفها مع (إسرائيل) والولايات المتحدة وعدم التضحية بها، حتى لو تطلّب ذلك غض الطرف عن تجاوزات إسرائيلية خطيرة أو تبنّي نبرة تصالحية تجاه رؤى أمريكية مثيرة للجدل.
كما سعت أبو ظبي مبكرا لاستثمار الفراغ الذي ستخلفه إزاحة فصائل المقاومة بحسب الخطط الإسرائيلية، لترتيب دور سياسي لها في مستقبل غزة عبر عودة السلطة – وربما شخصيات مقرّبة منها – إلى الواجهة.
هذا التذبذب بين خطاب مناصر للفلسطينيين وأفعال متسقة أحيانًا مع أجندة إسرائيلية أوقع الإمارات في مرمى انتقادات عديدة. فالمراقبون الفلسطينيون يرون أن “اللاءات” الإماراتية المعلنة ضد التهجير تفقد زخمها طالما لم يصاحبها ضغط حقيقي على تل أبيب أو على الأقل رفض قاطع لمخططاتها في الغرف المغلقة.
كما أن الترويج الإعلامي الكبير للمساعدات الإماراتية لم يمنع البعض من التساؤل: هل تسد تلك المساعدات فعلاً الفجوة أم أنها تتزامن مع تقسيم سكان غزة وتكريس واقع “المعزل” الخطير في الجنوب؟.