تحليلات واراء

ماكينة التحريض: كيف سوق إعلام السعودية والإمارات رواية “هجوم حماس على المدنيين”؟

في خضم اختبار قاس للهدنة الهشة في غزة، انشغل جزء مؤثر من المنصات السعودية والإماراتية منذ 19–20 أكتوبر/تشرين الأول 2025 بتضخيم بيان لوزارة الخارجية الأميركية يتحدث عن “تقارير موثوقة” تفيد بأن حركة حماس “تخطط لهجوم وشيك على المدنيين في غزة”.

وقدمت تلك المنصات السردية بوصفها حقيقة قاطعة، لا سيما قناتَي “العربية” و“سكاي نيوز عربية”، بما يخلق انطباعًا عامًا مناهضًا لحماس يمكن أن يُستخدم لتليين الموقف الأميركي لصالح استئناف الحرب الشاملة.

والعبارة المفتاحية التي رُوجت لها المنصات هي أن الخارجية الأميركية “تلقت تقارير موثوقة” عن هجوم تخطط له حماس ضد سكان غزة، وأن مثل هذا الهجوم سيُعد “انتهاكًا جسيمًا” للهدنة. وقد نُقلت الصياغة ذاتها في تغطيات دولية (وكالات وصحف وشبكات)، ما منح الرواية زخمًا إضافيًا عبر قنوات عربية مرتبطة بالرياض وأبوظبي.

ونشرت قناة “العربية” الخبر بصياغته الحرفية تقريبًا، مرفقًا بتأكيد أن التحذير الأميركي موجه لحماية المدنيين والحفاظ على الهدنة.

بالتوازي، عرضت “سكاي نيوز عربية” — من أبوظبي — الخبر بالعنوان ذاته تقريبًا وبعبارات “تقارير موثوقة” و“هجوم وشيك”، في ربط مباشر بين أي تدهور وبين حماس لا بين الغارات الإسرائيلية التي تواصلت في اليوم نفسه.

شبكة أفيخاي ويكيبيديا

رفضت حركة حماس الرواية الأمريكية ووصفتها بأنها “تتبنى دعاية إسرائيلية” وتوفر غطاءً لاستمرار الاعتداءات، وهو ما نقلته مؤسسات إعلامية دولية بارزة.

لكن وجود رواية نافية بهذه السرعة لم ينعكس بقدر متوازن في العناوين الأولى لمنصات الرياض وأبوظبي، إذ ظل تركيزها على “خطر هجوم حماس” بدل إبراز سياق الغارات الإسرائيلية التي تزامنت مع التحذير.

وعمليًا، يحقق ضخ هذه السردية ثلاث وظائف مترابطة:

محاولة نزع الشرعية الأخلاقية عن المقاومة عبر تصويرها فاعلًا رئيسيًا في تهديد المدنيين الفلسطينيين أنفسهم.

تحويل بوصلة اللوم من الغارات الإسرائيلية وانتهاكات الهدنة إلى “تهديد داخلي” مزعوم.

محاولة تهيئة الرأي العام الدولي لقبول أي تصعيد إسرائيلي جديد بذريعة “حماية المدنيين” و“إنقاذ الهدنة” من حماس.

وقد ظهر هذا الترتيب فعليًا مع موجة غارات إسرائيلية دامية جاءت مبررة بادعاء “انتهاكات حماس”، بينما كانت مؤسسات دولية وصحف كبرى توثق وقع الضربات وحجم الضحايا، في اللحظة ذاتها التي ظلت فيها رواية “هجوم حماس الوشيك” تتردد بكثافة في المنصات الخليجية المذكورة.

منبر لدفع الأجندة: نزع السلاح فورًا وبشكل كامل

يتقاطع هذا الخط التحريري مع الدفع نحو “نزع سريع وكامل لسلاح حماس” وفتح الطريق أمام “عودة منظمة” لتدابير أمنية إسرائيلية، وهي نقاط حاضرة في نقاشات “اليوم التالي” التي غطتها وسائل دولية، وتبنتها أصوات على شاشات عربية باعتبارها “الحل الواقعي”.

والمرحلة الثانية من ترتيبات الهدنة — كما عرضتها تقارير سياسية — تتضمن أصلًا بنودًا تتعلق بتجريد حماس من السلاح وترتيبات حوكمة لاحقة، ما يمنح هذا الخطاب أرضية سياسية يجري تسويقها للرأي العام العربي كـ“ضرورة”.

وقد تزامن تضخيم التحذير الأميركي مع تصاعد دعوات في إسرائيل للعودة إلى القصف الواسع، ومع رسائل أميركية متباينة حول صمود الهدنة.

في هذا السياق، يصبح تركيز منصات سعودية وإماراتية على “تهديد حماس للمدنيين” — مع تهميش السياق الميداني والقانوني — مادة دعائية مساعدة يمكن أن تُستخدم في واشنطن لتخفيف القيود على تل أبيب، بحجة أن الخطر الأبرز يأتي من “عنف داخلي” تمارسه حماس بحق الغزيين.

وتم رصد تغطيات حية وصحف مرجعية سجلت اللحظة: غارات كثيفة، هدنة تتهاوى، وبيان أميركي يُستثمر إعلاميًا لإعادة تعريف الطرف المهدد للمدنيين.

وعليه لم يكن انهماك “العربية” و“سكاي نيوز عربية” في الترويج المكثف لتحذير الخارجية الأميركية مجرد “متابعة خبرية”، بل جاء ضمن مسار أوسع لإعادة توجيه السردية: من مساءلة الاحتلال عن خروق الهدنة إلى وصم حماس بأنها الخطر المباشر على المدنيين الفلسطينيين.

بهذه الصياغة، يُحرك الرأي العام بعيدًا عن المطالبة بكبح آلة الحرب، ويُمهد — سياسيًا وإعلاميًا — لاستئنافها تحت عنوان “حماية المدنيين” و“فرض شروط السلام”، أي “نزع سلاح المقاومة فورًا وبالكامل” انسجامًا مع الخطط الإسرائيلية المعلنة والمرحلة التالية من ترتيبات الهدنة.

وفي قلب هذا كله، تؤدي المنصات السعودية والإماراتية وظيفةً مفصلية في تحويل مسرح الصراع من الميدان إلى الوعي، حيث تُصنع الحجج التي تسبق القنابل.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى