إصلاح السلطة بين الأولويات الوطنية وأجندات الاحتلال وواشنطن

يشير الواقع الفلسطيني الراهن إلى تفاقم أزمة السلطة الفلسطينية، التي تتجاوز أبعادها السياسية الضيقة لتطال صميم المشروع الوطني الفلسطيني، في وقت يشهد فيه الشعب الفلسطيني صمودًا أسطوريًا ومقاومة باسلة رغم جميع التحديات.
ويعود هذا الواقع المتردي إلى اختلال موازين القوى لصالح الاحتلال الإسرائيلي، وغياب البيئة الإقليمية والدولية الحاضنة، رغم تضامن شعبي عالمي غير مسبوق مع فلسطين.
وفي قلب هذا الواقع، تبدو قيادة السلطة الفلسطينية مشتتة ومنقسمة، تائهة بين حماية مصالحها الذاتية وبين استجابة لمطالب الإصلاح التي تُفرض عليها من الخارج، خاصة في ظل قرارات مجلس الأمن الأخيرة، التي كرّست الوصاية الأمريكية وحمّلت المقاومة مسؤولية ما يجري، متجاهلة جرائم الإبادة الجماعية والتطهير العرقي والفصل العنصري والضم.
إصلاح السلطة قضية دولية
يبرز المحلل السياسي عريب الرنتاوي أن قضية إصلاح السلطة باتت قضية دولية بامتياز، أكثر من كونها شأنًا وطنيًا فلسطينيًا خالصًا، إذ تم تدويلها وتعريبها وأسلمتها لتصبح محور رقابة دولية مستمرة.
ويشير الرنتاوي إلى أن هذا الوضع دفع السلطة لتقديم “أولوية الإصلاح” على كل أولوياتها الأخرى، بما فيها الأولويات الوطنية الأساسية، وهو ما يطرح تحديًا كبيرًا أمام القدرة على تنفيذ برامج الإصلاح الوطني المطلوبة.
ويقوم البرنامج الوطني للإصلاح على إعادة بعث منظمة التحرير بوصفها الممثل الشرعي والوحيد لشعب فلسطين، على أسس وطنية ديمقراطية متعددة، تشمل كل المكونات والأجيال والانتماءات السياسية، لتعزيز وحدة الشعب والأرض والقضية ووحدانية التمثيل.
كما يركز على تعزيز صمود الفلسطينيين على أرضهم، وتمكينهم من مواجهة الاحتلال والاستيطان، والحفاظ على الرواية التاريخية الفلسطينية، باعتبارها أداة حيوية لاستمرار المشروع الوطني ومواجهة محاولات الطمس والتفريغ التي يفرضها الاحتلال.
إضافة إلى ذلك، يسعى الإصلاح الوطني لبناء اقتصاد مقاوم يعزز من الانتماء للأرض ويؤمن حدًا أدنى من الاكتفاء الذاتي للفلسطينيين، ويضع الانتخابات على رأس آليات استعادة الشرعية الوطنية، في الداخل وخارج الوطن.
الاشتراطات الدولية لإصلاح السلطة
يطرح الإصلاح الدولي نموذجًا مختلفًا تمامًا، يضع السلطة الفلسطينية محورًا وحيدًا للمشروع، متجاهلًا المنظمة والشعب الفلسطيني في أماكن وجوده، ويسعى لتقليص دور المقاومة وتفريغها من أدواتها وتأثيرها في المجتمع.
ويقوم هذا البرنامج على إعادة إنتاج “الإنسان الفلسطيني الجديد” وفق رؤية ذات بعد واحد، يخضع للهيمنة الاقتصادية والسياسية للكيان الإسرائيلي، ويُقنع بأن عدوه مشروع حليف، و”ابن جلدته” مشروع تهديد، ويعمل على تفريغ الذاكرة الفلسطينية وإعادة صوغ الرواية الوطنية، بما في ذلك تعديل المناهج التعليمية وطمس ذكرى الشهداء والأسرى، وشيطنتهم بوصفهم عقبة أمام “التقدم”.
لقد جربت السلطة الفلسطينية هذا النهج سابقًا بعد اغتيال ياسر عرفات، واستجابت لمبادرات دولية مماثلة، لكنها لم تحصل على شيء في المقابل سوى تآكل سلطتها وتراجع شرعيتها، وانتشار الفساد، وفقدان الحاضنة الشعبية.
واليوم، تتكرر التجربة ذاتها، إذ تسارع السلطة إلى الاستجابة للإصلاح الدولي طوعًا أو كرهًا، في وقت ينظر فيه غالبية الفلسطينيين إلى هذه الخطوات بريبة، بوصفها امتدادًا لما يمكن وصفه بـ”الانتداب الأمريكي”، الذي لا يختلف عن تجارب الانتداب البريطاني قبل ثمانية عقود.
ويشير الرنتاوي إلى أن هذا الانصياع للإصلاح الدولي، الذي يكرّس الوصاية الأمريكية، لا يضمن للشعب الفلسطيني أي خطوة جدية نحو الدولة أو تقرير المصير، بل يعيد إنتاج تجربة الإملاءات الخارجية التي فشلت مرارًا في تحقيق أي إنجاز فعلي، سواء في الانتخابات أو في الإصلاح الإداري أو الاقتصادي.
وفي ظل ضعف الموقف العربي وتراجع التضامن الإقليمي، فإن حظوظ السلطة الفلسطينية في تحقيق أي مكاسب حقيقية تبدو ضئيلة، وهو ما يجعل من الاستمرار في تقديم التنازلات لشركاء دوليين وأعداء محتملين طريقًا محفوفًا بالمخاطر، قد يؤدي إلى مزيد من فقدان الشرعية الداخلية والتمثيل الوطني الفعّال.
من جهته يؤكد مدير مركز مسارات للدراسات والأبحاث في رام الله هاني المصري، أن مواجهة تحدي الضغوط الدولية يتطلب اختيار الطريق الوطني للإصلاح، الذي يضع الشعب الفلسطيني ومؤسساته وحقوقه الأساسية في صدارة الأولويات.
ويشدد المصري على الحاجة إلى إعادة بناء منظمة التحرير، وتعزيز صمود المواطنين على أرضهم باعتبار ذلك الطريق الذي يمكن أن يوفر قاعدة صلبة لأي مفاوضات مستقبلية، ويجنب الفلسطينيين الوقوع في فخ الانصياع للإملاءات الدولية التي طالما أثبتت فشلها في تقديم أي حل حقيقي يحقق الحرية والاستقلال.
ويتفق المراقبون على أن الإصلاح الوطني ليس رفاهية سياسية، بل ضرورة وجودية، في وقت تحاول فيه مشاريع الاحتلال والوصاية الدولية إعادة صياغة القضية الفلسطينية وفق مصالحها الخاصة.
وعليه فإن سلطة رام الله أمام مفترق طريق حاسم: إما أن تختار الإصلاح الوطني الحقيقي، الذي يعيد الشرعية والثقة، أو أن تستمر في الانصياع للإملاءات الخارجية، لتجد نفسها، مرة أخرى، غير قادرة على حماية مشروعها الوطني وأرضها ومقاومتها.
وبهذا الصدد يشدد المصري على أن إفشال المخططات الإسرائيلية الرامية لتصفية القضية الفلسطينية يتطلب وجود قيادة موحدة مخلصة ووطنية وديمقراطية، تعرف أنّ تغيير الواقع يستلزم التعامل معه من دون الخضوع له أو القفز عنه، في إشارة إلى نهج قيادة سلطة رام الله منذ سنوات.





