تواطؤ السلطة وتمادي الاحتلال: مسار تصفية ممنهج للقضية الفلسطينية

رغم التنازلات الكبيرة لقيادة السلطة الفلسطينية، والتكيف الاقتصادي والأمني مع الاحتلال، يستمر المشروع الإسرائيلي في فرض شروطه التي تهدف بشكل صارخ إلى تصفية نهائية للقضية الفلسطينية.
وتكشف هذه السياسة أن الاحتلال لا يكتفي بالسيطرة الجزئية أو التفاوض على ملف محدد، بل يسعى إلى تفكيك الهُويّة الوطنية الفلسطينية بالكامل وفرض خضوع دائم على كل مكوّناتها، سواء كانت السلطة أو المنظمة أو الشعب الفلسطيني نفسه.
أخطاء فادحة للسلطة
يبرز مدير مركز مسارات للأبحاث والدراسات في رام الله هاني المصري، أن قيادة السلطة ارتكبت أخطاء فادحة خلال العقود الماضية، تمثلت في تبني استراتيجية البقاء الفردية قبل أي اعتبار للمصلحة العامة أو للمشروع الوطني الجامع.
ويشير المصري إلى أن هذا التوجه انعكس في التخلي عن مبادرات الوحدة، والقبول بتقاسم التبعية الاقتصادية مع الاحتلال، والتكيف مع القيود الأمنية المفروضة على الفلسطينيين. ومع ذلك، فإن هذه الأخطاء لم تمنح الاحتلال أي حدود في مطالبه، بل على العكس، فقد زاد الطموح الإسرائيلي في فرض شروط جديدة تتجاوز الحدود التقليدية لأي تفاوض سياسي.
وتظهر سياسة الاحتلال تجاه السلطة بوضوح هذه النوايا التوسعية، فبينما تعتبر السلطة شريكًا اقتصاديًا وأمنيًا، فهي لا تزال تحت المراقبة، ويتم تهديدها بشكل مستمر بإجراءات تصفية، مثل الدعوات إلى حلها، أو حتى محاكمة رئيسها باعتباره يمارس “إرهابًا دبلوماسيًا.
ويؤكد هذا التناقض الواضح أن الاحتلال لا يتعامل مع السلطة كشريك سياسي، بل كجسم خاضع يمكن التحكم به أو تفكيكه عند الحاجة.
شروط “الإصلاح” الإسرائيلية
تكشف شروط “الإصلاح” الإسرائيلية الموضوعة على السلطة طبيعة الهدف الحقيقي القائم على تحجيم دور الفلسطينيين على الصعيد الوطني وإضعاف مؤسساتهم.
وتشمل هذه الشروط تغيير المناهج التعليمية، وقف أي تحريض إعلامي، منع التدويل وملاحقة دولة الاحتلال في المحافل الدولية، التوقف عن السعي للاعتراف بالدولة الفلسطينية، وفرض التخلّي عن حق العودة، إضافة إلى وقف رواتب الأسرى وعائلات الشهداء والاعتراف بإسرائيل كدولة للشعب اليهودي حصريًا.
وبحسب مراقبين فإن كل هذه المطالب لا تتعلق بإصلاح اقتصادي أو إداري فحسب، بل تهدف إلى تفكيك المرجعيات الوطنية الفلسطينية وطمس روايتها التاريخية.
ويوضح الاحتلال بذلك أنه لا يميّز بين المعتدلين والمتطرفين، ولا بين السلطة والمقاومة؛ فالجميع يُعاملون كأفراد يجب عليهم الاختيار بين الهجرة أو العبودية أو الموت.
كما ترسم هذه السياسة الاستراتيجية صورة واضحة لمشروع إسرائيلي شامل يستهدف الشعب الفلسطيني بكامله، لا مجرد الأطراف التي تتعاون مع الاحتلال.
فالرسالة الإسرائيلية واضحة: وجود هوية وطنية فلسطينية موحدة، أو حتى مجرد استمرار مؤسسات فلسطينية قادرة على التنظيم، يمثل تهديدًا يجب القضاء عليه.
السلطة الفلسطينية ويكيبيديا
يتعلق الجانب الأكثر خطورة في هذا السياق بتأثير التبعية الاقتصادية والأمنية للسلطة على قدراتها في المقاومة السياسية والدبلوماسية.
فالاعتماد على المساعدات المالية والموارد الاقتصادية الخاضعة للسيطرة الإسرائيلية يجعل السلطة في موقف هش، غير قادر على مواجهة هذه المطالب دون المخاطرة باستقرارها الداخلي أو قدرتها على الحكم.
ويعزز هذا الأمر هيمنة الاحتلال ويجعل الفلسطينيين عرضة لمساومة مستمرة، مع فقدان تدريجي للقدرة على اتخاذ قرارات مستقلة أو حماية الحقوق الوطنية الأساسية.
مع ذلك، فإن استراتيجية الاحتلال لا تقتصر على السلطة فحسب، بل تشمل المنظمة الفلسطينية بأكملها. التهديدات الموجهة ضد قيادات المنظمة، ومحاولة فرض شروط سياسية وأيديولوجية عليها، تظهر أن الهدف هو محاصرة أي مشروع وطني يمكن أن يشكل تهديدًا للاستراتيجية الإسرائيلية.
وبالتالي، فإن ما يبدو أحيانًا كإصلاحات أو اتفاقات جزئية لا يمثل سوى خطوات لتصفية الهوية الفلسطينية وتقويض القدرة على المقاومة القانونية والدبلوماسية.
كل ما سبق يؤكد أن المشروع الإسرائيلي يسعى إلى السيطرة الكاملة على كل جوانب الحياة الفلسطينية، بدءًا من الاقتصاد والأمن، مرورًا بالثقافة والتعليم، وصولاً إلى الرواية التاريخية والسياسية.
أما السلطة الفلسطينية، برغم كل التنازلات والتكيفات، فإنها لا تزال في موقع ضعيف وغير قادر على فرض شروطه، فيما الاحتلال يواصل تعزيز هيمنته بشكل تدريجي واستراتيجي، مستهدفًا كل فلسطيني، سواء كان متعاونًا أو معارضًا.
والاستنتاج النهائي أن الفلسطينيين يقفون أمام معركة وجودية حقيقية، لا يمكن أن تحلها التنازلات الفردية أو سياسات البقاء الشخصية، بل تتطلب وحدة وطنية شاملة واستراتيجية مقاومة متكاملة تحمي الهوية الفلسطينية وتواجه محاولات التصفية الإسرائيلية على كل المستويات وهو أمر لا تزال سلطة رام الله تعرقل حدوثه باعتمادها استراتيجية البقاء لنفسها قبل أيّ شيء آخر.





