منظمة التحرير في عهد عباس: مؤسسة مُفرَّغة تحكمها الإملاءات

تمرّ منظمة التحرير الإطار الذي يفترض أنه الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، في واحدة من أسوأ مراحلها منذ تأسيسها بعد أن باتت مؤسسة مُفرَّغة تحكمها الإملاءات وتخنقها الشرعية الغائبة.
ويرى مراقبون أن أزمة منظمة التحرير لا تتعلق بالهياكل القيادية بقدر ما هي أزمة فقدان فعلي للدور والشرعية، وتحوّل المؤسسة التقليدية التي قادت النضال الوطني لعقود طويلة إلى جهاز رمزي هشّ، منزوع الصلاحيات، يعمل ضمن حدود مرسومة مسبقًا، ووفق رغبات خارجية أكثر مما يعمل لخدمة المشروع الوطني الفلسطيني.
ويلخص الناشط السياسي جهاد عبده هذا الواقع القاتم بوضوح حين يقول إن اللجنة التنفيذية للمنظمة لم تعد قادرة حتى على التراجع عن التزاماتها الشكلية بالإصلاح، وهو ما يعكس تحوّل المنظمة من مؤسسة تقود القرار الوطني إلى جهاز عاجز عن مجرد مراجعة قراراته، ناهيك عن القدرة على صناعتها.
من قيادة المشروع الوطني إلى مقاول ثانوي للتنسيق الأمني
يقول عبده إن اللجنة التنفيذية باتت مقيدة بمهام أمنية ضيقة لا تتجاوز “التنسيق الأمني” وخدمة الاستقرار المطلوب إسرائيليًا وأمريكيًا.
وتختصر هذه العبارة الانهيار الأخلاقي والسياسي الذي وصلت إليه المنظمة في عهد محمود عباس، حيث تحوّلت من إطار وطني جامع إلى ملحق أمني، يُستخدم لضبط الفلسطينيين، لا لمواجهة الاحتلال، وتُستدعى فقط لضمان الهدوء في الضفة الغربية بما يخدم مصالح الاحتلال لا مصالح الشعب.
وإن تقزيم دور المنظمة إلى هذا المستوى يعكس حقيقة لا يمكن تجاهلها: القرار الفلسطيني لم يعد مستقلًا ولا حتى نصف مستقل؛ إنه قرار محكوم بسقف أمني، وبخطوط حمراء مرسومة من قبل منسّق الاحتلال، الذي أشار عبده إليه ساخرًا بـ”منسق المنسق”، في وصف يختصر حالة الارتهان المهينة التي باتت تتحكم في مفاصل القيادة الرسمية.
المجتمع المدني… غائب أم مغيّب؟
يشير عبده إلى أن مؤسسات المجتمع المدني “لا تبدو مدركة” لحقيقة أن اللجنة التنفيذية اليوم لا تملك صلاحيات فعلية وتُكلّف بمهام محددة تعرقل توحيد الجبهة الداخلية و”تسحق عناصر قوة الشعب الفلسطيني”.
ولا تنحصر المشكلة في عدم الإدراك، بل في التواطؤ أو الخوف أو الرهان الخاطئ على إصلاح من داخل منظومة يسيطر عليها رأس واحد وقرار فردي مطلق.
فالمجتمع المدني الذي قام تاريخيًا بدور الحارس على قيم الديمقراطية والرقابة والمساءلة، بات اليوم إما صامتًا أو عاجزًا، أو محاصرًا بقوانين التضييق والأمن والاعتقالات والمنع، ما سمح للمنظمة بالتآكل دون أن تواجه ضغطًا داخليًا حقيقيًا يوقف هذا الانحدار.
والأخطر، كما يقول عبده، هو استمرار صدور القوانين والمراسيم في ظل غياب أي شرعية دستورية أو تشريعية.
فمحمود عباس يحكم منذ سنوات طويلة دون مجلس تشريعي، ودون انتخابات، ودون مؤسسات رقابية، ومع ذلك يستمر بإصدار قرارات مصيرية تتعلق بالقضاء والأمن والمال العام والوظائف العليا.
وتفتقد هذه القرارات، كما يوضح عبده، للأساس القانوني والأخلاقي. فلا يمكن لمنظومة واحدة تحتكر السلطة بهذا الشكل، وتعطّل المؤسسات، وتتحرك بمعزل عن الشعب، أن تدّعي الشرعية أو تزعم تمثيل الفلسطينيين.
فالشرعية ليست ورقة بيد السلطة، بل عملية متجددة يقوم عليها الشعب، وما دامت الانتخابات غائبة، فكل ما يصدر عن السلطة وعن منظمة التحرير يبقى فاقدًا للثبات والاعتراف الشعبي.
أزمة منظمة التحرير هي أزمة محمود عباس شخصيًا
الأزمة ليست فنية ولا تنظيمية؛ إنها أزمة قيادة تمسك بكل الخيوط وترفض أي إصلاح يمكن أن يعيد توزيع السلطة أو يفتح الباب أمام مشاركة القوى الأخرى.
في عهد محمود عباس، أصبحت منظمة التحرير مؤسسة “مُعطّلة” وظيفيًا، لا تُستدعى إلا لشرعنة قرارات جاهزة، أو لإصدار بيانات مكررة، أو لتغطية توجهات لا تمر عبر الشعب.
فقدان الإرادة السياسية للإصلاح، وتغوّل الأجهزة الأمنية، وتراجع الدور الوطني، كلها تحوّلت إلى سمات ثابتة في المشهد، حتى بات الفلسطينيون يرون المنظمة اليوم مجرد عنوان تاريخي فارغ، تُستخدم رمزيته لحماية واقع سياسي منهار.
ويرى عبده أن نقطة البداية للخلاص تتمثل في ضغط شعبي حقيقي يتجاوز مربع الانتقاد، ويتحول إلى تكتل واسع يمثل إرادة الشارع، ويدفع نحو انتخابات عامة وشاملة تُجرى إلكترونيًا، لتجاوز التعطيل المتعمد الذي تنتهجه السلطة في كل مرة يُطرح فيها ملف الانتخابات.
ويشدد عبده على ضرورة مشاركة كافة مكونات الشعب الفلسطيني في هذه الانتخابات—من الضفة وغزة والقدس والشتات—لضمان تمثيل حقيقي يعيد القرار إلى أصحابه الشرعيين.
ويؤكد ذلك أن منظمة التحرير لن تستعيد دورها إلا إذا أعيد بناؤها على أسس ديمقراطية جامعة، تنهض فوق الفصائلية والهيمنة الفردية، وتعيد صياغة المشروع الوطني على قاعدة المقاومة والوحدة والشراكة.




