تحليلات واراء

لماذا تتدفّق روايات إسرائيل فجأة عن “اصطياد المقاومين” في رفح؟

ظل جيش الاحتلال الإسرائيلي على مدى أشهر طويلة، يعلن أن قواته “تبحث” عن مقاومين متحصنين في رفح، وتفتّش الأنفاق وتقتحم الأحياء ويؤكد كل يوم أنه “على وشك” توجيه الضربة الحاسمة، من دون أن تُظهر نتائج ملموسة أو تكشف عن عمليات نوعية حقيقية.

ورغم الحديث المزعوم عن “تفكيك البنية العسكرية”، لم تكن دولة الاحتلال قادرة على تقديم أدلة تُثبت ما تزعمه، ثم فجأة، وخلال أسبوع واحد فقط، تغيّر المشهد جذرياً بإصدار بيانات يومية عن اغتيالات واعتقالات، وإحصائيات تتحدث عن استشهاد مقاومين واعتقال آخرين.

وعمد جيش الاحتلال إلى إصدار فيديوهات مصوّرة تُنشر بشكل متسلسل، بما فيها مقطع لأحد المعتقلين جنود الاحتلال يكررون عليه سؤال: “هل تركتكم حماس دون طعام وماء؟ هل قطعت الاتصال بكم؟”.

ويطرح هذا التحوّل المفاجئ في السردية الإسرائيلية علامات استفهام واسعة، خصوصاً أنه يأتي بعد فترة ادعت فيها دولة الاحتلال أنها تجوب رفح “بلا نتائج” وأن المدينة تحت سيطرتها المطلقة، فكيف عجزت لأشهر، ثم أصبحت يومياً “تكشف”، و”تعتقل”، و”تغتال”، وتنشر التفاصيل المصورة؟.

فجوة واضحة بين السلوك العسكري والنتائج المفاجئة

طوال الفترة الماضية، كانت العمليات الإسرائيلية في رفح تعتمد على القصف العنيف والتوغل المحدود، مع ما تسميه “عمليات تمشيط”، ورغم ذلك، لم تتمكن من الوصول إلى خلية مركزية واحدة أو قيادة ميدانية عالية المستوى. كما قالت مراراً إن المقاومة “تختفي” في مناطق لا يمكن تحديدها.

لكن الأسبوع الأخير شهد تدفقاً مفاجئاً للروايات: أرقام، أسماء، مواقع، روايات جاهزة، مقاطع مصورة، وإعلانات يومية عن نجاحات لم تكن موجودة طوال أشهر.

ويشير هذا التناقض إلى تحول في الخطاب الإعلامي والاستخباراتي أكثر مما يشير إلى اختراق عسكري حقيقي.

إذ أن الرواية الإسرائيلية المتكررة هذه الأيام تقول إن المقاومين “يعانون من نقص الغذاء”، وإن بعضهم “خرج من أنفاقه بحثاً عن الطعام” وذلك لترسيخ صورة معينة: مقاتلون جائعون، معزولون، قيادتهم هجرتهم، وهم على وشك الانهيار.

لكن فجأة ظهرت هذه القصة كقطعة جاهزة ومكررة، تماماً بالتزامن مع روايات الاعتقال والاغتيال. هذا التوازي يثير الشك: هل يعقل أن دولة الاحتلال لم تكتشف شيئاً طوال شهور ثم اكتشفت كل شيء خلال أيام؟ أم أن الرواية بنيت بهدف هندسة صورة نفسية عن حالة المقاتلين؟.

ويرى مراقبون أن فيديوهات الاعتقال وعمليات القصف الوحشية ضد المقاومين في رفح هي محاولة مفضوحة لشرعنة الرواية وليس لتوثيق الحقيقةز

إذ أن الفيديو الذي نشرته سلطات الاحتلال لأحد المعتقلين وهي تسأله: “هل تركتكم حماس دون طعام وماء؟” يكشف الكثير، باعتبار أن السؤال نفسه ليس استفساراً، بل رسالة. الهدف ليس الحصول على معلومة، بل ترسيخ سردية: “قيادتكم تخلّت عنكم”.

وهنا يتضح المسار بأن دولة الاحتلال لا تعرض معلومات، بل تبني قصة إعلامية موجهة لجمهورين:

داخل غزة وداخل الأنفاق: خلق شعور بأن المقاومة تنهار، بهدف دفع المقاومين لتغيير مواقعهم أو التواصل مع مجموعات أخرى، وهو ما يفتح أبواباً واسعة للاختراق ورصد الإشارات والمكالمات والتحركات.

داخل دولة الاحتلال: تقديم “إنجازات” بعد أشهر من العجز، حتى لا يظهر الجيش في موقف الفشل.

تحريض لقلب الرأي العام على المقاومة

عند تحليل مضمون الرسائل الإسرائيلية، يمكن ملاحظة خيط واضح: تصوير قيادة المقاومة على أنها تخلّت عن مقاتليها والحديث المتكرر عن “تركهم بلا ماء”، “انقطاع الاتصال”، “غياب التعليمات”، هو خطاب موجه ضد البنية العسكرية، بهدف خلق شرخ نفسي داخل الصف الواحد.

ومن الطبيعي أن يتعرض المقاومون في رفح لضغط كبير في ظل الحصار والقصف المتواصل، وقد تكون هناك بالفعل مناطق تعاني من نقص الغذاء أو الظروف الصعبة. لكن من غير المنطقي أن تكون كل هذه الروايات المفاجئة “كشفاً استخباراتياً” خلال أيام.

ولهذا يبدو أن جزءاً بسيطاً من الرواية قد يكون صحيحاً، لكن الجزء الأكبر هو معلومات مضخمة أو مفبركة تُستخدم كسلاح نفسي، وكسلم للوصول إلى تحركات المقاومين، أو لخلق رأي عام فلسطيني وإسرائيلي يتقبل سياسات الاحتلال خلال الأسابيع القادمة.

ويثبت كل ذلك أن دولة الاحتلال لا تعرض حقائق، بل تشنّ حرباً إعلامية استخباراتية موازية للحرب الميدانية. تراكم البيانات المفاجئة، وصياغتها المتناسقة، وتزامنها مع فيديوهات ورسائل عاطفية موجهة، كلها تشير إلى محاولة منهجية تهدف إلى زعزعة معنويات المقاومين المحاصرين وتسويق إنجازات داخلية والأهم وتشويه العلاقة بين المقاومين وقيادتهم.

وبذلك، تتحول الرواية الإسرائيلية الجديدة من “كشف أمني” إلى خطة نفسية استخباراتية شاملة، أكثر مما هي انعكاس لحقائق ميدانية ثابتة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى