
منذ اندلاع الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة في 7 أكتوبر 2023، بدت المواقف الأوروبية في بداياتها امتداداً للنهج التقليدي المنحاز لإسرائيل، تحت ذريعة “حق الدفاع عن النفس”.
إلا أن تسارع وتيرة المجازر، واعتماد سياسة التجويع كسلاح، واتساع رقعة الدمار والاستهداف المتعمد للمدنيين، كلها عوامل بدأت في تقويض هذا الانحياز، لتكشف عن تصدعات في المواقف الأوروبية، لم تعد قابلة للإخفاء. فما الذي يفسر هذا التحوّل؟ وهل يمثّل انكسارًا حقيقيًا في الإجماع الغربي حول دولة الاحتلال؟ وما هي حدود هذا التحوّل وإمكاناته السياسية الفعلية؟
تحولات ملموسة… من الدعم المطلق إلى النقد العلني
بحسب تحليل صادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، لم يكن من السهل على العواصم الأوروبية، ذات العلاقات التاريخية والأخلاقية العميقة مع دولة الاحتلال، أن تخرج عن النسق الأميركي الداعم للحرب.
غير أن تصاعد القتل، وخرق دولة الاحتلال لاتفاقيات وقف إطلاق النار، واستمرار الحصار والمجاعة في غزة، فرضت واقعًا جديدًا على الرأي العام الأوروبي، الذي بات يرى في استمرار هذه الحرب جريمة جماعية.
من هنا، بدأت بعض الحكومات الأوروبية – مثل فرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة – بإعادة تقييم مواقفها تدريجيًا، وسط ضغط شعبي وإعلامي وحقوقي متزايد.
فقد دعت سبع دول أوروبية، في مايو 2025، إلى رفع الحصار عن غزة فورًا، كما لوّحت باريس وبرلين ولندن بمراجعة علاقاتها مع دولة الاحتلال.
أما دول مثل إسبانيا، إيرلندا، سلوفينيا، والنرويج، فقد ذهبت أبعد من ذلك، بدعمها الاعتراف الكامل بدولة فلسطين في الأمم المتحدة، وتأييدها لمسارات قانونية دولية لمحاسبة دولة الاحتلال.
اتجاهان متناقضان داخل أوروبا
التحوّلات الأوروبية لا تسير على نسق واحد، بل تتوزع بين تيارين رئيسين:
- محور الدعم التقليدي: الشراكة فوق الأخلاق
تتمثل نواة هذا التيار في ألمانيا، التي لا تزال تعتبر دعم دولة الاحتلال جزءًا من “مصلحة الدولة العليا” المرتبطة بإرث الهولوكوست.
وقد بلغت صادراتها العسكرية لتل أبيب في عام 2023 نحو 326 مليون يورو، وهو ما يعادل ثلث واردات إسرائيل من السلاح، بحسب معهد SIPRI.
إلا أن هذا الموقف الصلب بدأ يتعرض للاهتزاز، خاصة بعد أن صرّح المستشار فريدريش ميرتس بعدم فهمه لما يفعله الجيش الإسرائيلي في غزة، مشيرًا إلى أن حجم الأذى اللاحق بالمدنيين لم يعد قابلًا للتبرير. كما أعلنت برلين تعليق تصدير أي سلاح قد يُستخدم في خرق القانون الإنساني.
وتتقاطع بريطانيا إلى حد كبير مع هذا التوجه، وإن بنبرة أكثر براغماتية، فهي لا تزال تحتفظ بعلاقات تسليحية وعسكرية مع دولة الاحتلال، غير أنها بدأت باستخدام لغة دبلوماسية أكثر انتقادًا، وسط احتجاجات شعبية عارمة تطالب بوقف تصدير السلاح.
أما دول مثل التشيك والمجر والنمسا، فتمثل التيار اليميني المتشدد داخل الاتحاد الأوروبي، وتواصل دعمها الكامل لإسرائيل، رافضة أي إجراءات عقابية ضدها، بما يعكس بنية سياسية متشابكة مع النخب الصهيونية والمؤسسات الدينية المتطرفة.
2. محور النقد والتقويض: الاعتراف بفلسطين والضغط القانوني
في الجهة المقابلة، نشأ تحالف أوروبي جديد يقوده سياسيًا وأخلاقيًا كل من إسبانيا وإيرلندا والنرويج وسلوفينيا، وبدأت فرنسا وإيطاليا تلتحقان به تدريجياً.
يتسم هذا التيار بأنه لا يكتفي بالتصريحات، بل يُقرن المواقف بإجراءات عملية: تعليق تصدير السلاح، إلغاء اتفاقيات التعاون، والاعتراف بالدولة الفلسطينية.
فقد وصفت وزيرة إسبانية ممارسات دولة الاحتلال في غزة بالإبادة الجماعية، وطالبت بمحاكمة نتنياهو، بينما جمّدت إيطاليا فعليًا جميع رخص تصدير السلاح منذ بداية الحرب.
وبرزت فرنسا بموقف متقدم، بعد أن دعت إلى فرض عقوبات على المستوطنين، ولوّحت بالاعتراف بالدولة الفلسطينية في غياب تسوية سياسية عادلة.
من “ضبط النفس” إلى مواجهة دبلوماسية
شهد إبريل ومايو 2025 منعطفًا حاسمًا في الخطاب الأوروبي؛ إذ بدأت الدول الأوروبية الكبرى تتحدث بلهجة أكثر صرامة مع دولة الاحتلال ، مطالبةً بوقف الحصار فورًا، وتسهيل دخول المساعدات، ومهددةً باتخاذ إجراءات عقابية.
وهذا يشكل خروجًا واضحًا من إطار المجاملة الدبلوماسية إلى مقاربة أكثر واقعية، تعكس صراعًا داخليًا بين المبادئ والقيم من جهة، والمصالح والشراكات من جهة أخرى.
وسجلت الساحة الأوروبية أيضًا تحركات لافتة مثل استدعاء السفراء، ومراجعة اتفاقيات التجارة والتعاون، وحتى مناقشة سحب الامتيازات الجمركية والتأشيرات التي تحظى بها إسرائيل في السوق الأوروبية.
مكاسب فلسطينية رمزية
على الرغم من أهمية هذه التحولات، فإنها تبقى – حتى الآن – محصورة ضمن الإطار الرمزي والدبلوماسي. فاعتماد دول أوروبية مزيدًا من الاعترافات بالدولة الفلسطينية يعزز مكانة الفلسطينيين دوليًا، ويدفع بقضيتهم إلى صدارة المشهد، لكنه لا يكسر المعادلة السياسية التي تحتكرها واشنطن، ولا يغيّر موازين القوة على الأرض.
كما أن المواقف الأوروبية تفتقر إلى وحدة القرار؛ فلا تزال بعض العواصم – خاصة برلين ولندن – تتعامل بحذر مع فكرة فرض عقوبات على دولة الاحتلال أو إعادة صياغة العلاقة الاستراتيجية معها، خشية تعريض نفسها لابتزاز سياسي أو اقتصادي، أو لتهم “معاداة السامية”.
ولا شك أن التبدّل في المزاج الأوروبي يعكس تحوّلًا بنيويًّا في الوعي الشعبي والسياسي، لكنه يظل محكومًا بعدة عوائق مثل غياب الإرادة الجماعية داخل الاتحاد الأوروبي والاكتفاء بالطابع الرمزي للمواقف في ظل استمرار العلاقات الاقتصادية والأمنية.
كسر الإجماع لا يعني انقلابًا
يمكن القول إن ما يحدث اليوم داخل القارة الأوروبية هو تآكل تدريجي في الإجماع الغربي التقليدي الذي منح دولة الاحتلال حصانة سياسية ودبلوماسية لعقود.
إذ بدأت بعض الحكومات الأوروبية بالانفصال عن الخط الأميركي ولو جزئيًّا، تحت ضغط الواقع الأخلاقي والإنساني، لكن هذا الانفصال لم يتحول بعد إلى سياسة أوروبية موحدة أو أدوات ضغط حقيقية.
وإذا استمرت المجازر في غزة، واستمر غياب الحل السياسي، فإن الدول الأوروبية ستجد نفسها أمام اختبار جديد: إما تحويل المواقف الرمزية إلى إجراءات عملية، أو الانكفاء مجددًا خلف لغة البيانات والتحذيرات، وهو ما سيحدد إن كان هذا التحول مرحلة عابرة أم بداية لمسار جديد يعيد الاعتبار للقيم التي تتغنى بها أوروبا منذ عقود.