تحليلات واراء

هل خسرت حركة فتح نفسها وآخر أوراقها خلال حرب غزة؟

في خضم حرب الإبادة التي يتعرض لها قطاع غزة منذ أكثر من 21 شهرا، برزت ظاهرة لافتة في المشهد الفلسطيني: غياب حركة فتح عن الميدان السياسي والشعبي، وتقوقعها في موقف رمادي أقرب إلى الصمت والتواطؤ منه إلى الانخراط الوطني الجامع.

وبات سؤال جوهري يُطرح اليوم في أوساط المحللين والمواطنين على حد سواء: هل خسرت فتح نفسها؟ وهل فقدت آخر أوراقها الشعبية والسياسية خلال هذه الحرب؟.

الصمت في زمن المجازر

في الوقت الذي كانت فيه غزة تُقصف ليلًا ونهارًا، وبيوتها تُهدم فوق رؤوس ساكنيها، التزمت القيادة الرسمية لحركة فتح صمتًا مطبقًا أو صدّرت مواقف هزيلة ومتناقضة، لم ترقَ إلى مستوى الحدث الكارثي.

وعوضًا عن الانخراط في موقف موحد مع بقية الفصائل الفلسطينية، اختارت فتح الوقوف في “منطقة رمادية”، تتحدث عن “ضرورة التهدئة” و”الدبلوماسية الهادئة” بينما يتعرض الشعب الفلسطيني لأكبر عملية إبادة جماعية في تاريخه الحديث.

هذا الموقف لم يكن مفاجئًا فحسب، بل صادمًا لملايين الفلسطينيين في غزة والضفة والشتات، الذين كانوا يتوقعون من “حركة التحرر الوطني الفلسطيني” أن تعيد توجيه بوصلتها نحو الوحدة والمقاومة، لا أن تغرق في حسابات سلطوية ضيقة.

عزلة متزايدة داخل المشهد الفلسطيني

مع توالي الأحداث، تكرّس مشهد عزلة فتح عن الشارع الفلسطيني. فلم تشهد الضفة الغربية أي تصعيد شعبي واسع من قبل كوادر الحركة ضد الاحتلال خلال المجازر في غزة، رغم استشهاد المئات في الضفة على يد قوات الاحتلال والمستوطنين.

أين فتح من ميادين المواجهة؟

أين هي من المظاهرات، ومن اللجان الشعبية، ومن الخطاب السياسي الوطني؟

حتى على مستوى البيانات الرسمية، جاءت لغة فتح باهتة، بل وأحيانًا تحمل نقدًا ضمنيًا لفصائل المقاومة بدعوى “عدم التنسيق الوطني” أو “الزج بالشعب في الحروب”. وهو خطاب انسجم إلى حدٍ كبير مع رواية الاحتلال ووسائل إعلامه، وظهر كما لو أن فتح تقف على الضفة الأخرى من المعركة.

التنسيق الأمني… العار المستمر

في خضم المجازر، لم تعلن فتح – لا قيادة ولا أجهزة – وقف التنسيق الأمني مع الاحتلال، بل استمرّت اللقاءات والاعتقالات والتنسيقات الميدانية في الضفة، في ما بدا وكأنه خضوع فاضح للمنظومة الإسرائيلية، حتى في أقسى لحظات الدم الفلسطيني النازف.

ورغم التصعيد الكبير الذي شهده الضفة، والمجازر في جنين ونابلس وطولكرم، لم تُوجّه فتح أي تعليمات واضحة لكوادرها بالمواجهة أو العصيان المدني. بقيت الأوامر الصامتة هي: لا مواجهة، لا تصعيد، لا إرباك للمشهد الدولي.

والنتيجة: فقدان تدريجي للثقة، وتمرد شعبي متزايد داخل قواعد الحركة نفسها، حيث بدأت أصوات من داخل فتح تنتقد بشدة الأداء الباهت وتواطؤ القيادة، وظهرت بوادر انشقاقات غير معلنة في بعض المناطق.

الحسابات الضيقة… على حساب القضية

يرى مراقبون أن القيادة الفتحاوية اختارت الحفاظ على مصالح السلطة وموقعها الوظيفي، بدلاً من الانخراط في مشروع مقاومة الاحتلال، بل فضّلت البقاء في حالة من “التعايش” مع الاحتلال، انتظارًا لمعادلات ما بعد الحرب.

ويرى الدبلوماسي الأردني السابق حسن أبو نعمة أن فتح “باتت اليوم أسيرة وهم الحكم، ومنشغلة بكيفية إعادة تموضعها في الضفة، ولو على حساب غزة والقدس والمخيمات.”

ويضيف: “السلطة الآن ليست مشروع تحرير، بل أداة ضبط أمني. وحركة فتح، التي يفترض أنها تُمثل القلب السياسي لهذا المشروع، ارتضت دور الحارس على أبواب الاحتلال.”

خسارة الأوراق الأخيرة

من الواضح أن حرب غزة سحبت من تحت فتح آخر أوراقها في الشارع الفلسطيني. فبعد أن كانت تتباهى بأنها “قائدة المشروع الوطني”، لم تجد ما تقوله أو تفعله أمام حجم التضحية في غزة، أو الانتصار المعنوي الذي حققته المقاومة في صمودها الأسطوري.

بل على العكس، برهن أداء الفصائل الأخرى – وفي مقدمتها حماس والجهاد – على قدرة غير مسبوقة في إدارة المعركة ميدانيًا وسياسيًا، فيما بدت فتح غارقة في ماضٍ قديم، وعاجزة عن تجديد خطابها أو تفعيل أدواتها.

ولم يكن مشهد آلاف الشهداء في غزة وحده من فضح فشل فتح، بل أيضًا خيبة الأمل في الضفة، حيث لم تعد الحركة قادرة على تعبئة جماهيرها أو تحريك قواعدها، حتى في مناسبات وطنية كان يُفترض أن تستنهض الجميع.

ما بعد الحرب: إعادة الاصطفاف الوطني؟

قد يكون من المبكر الجزم بما ستؤول إليه الأمور بعد انتهاء الحرب، لكن ما هو واضح حتى الآن أن حركة فتح، بصورتها الحالية، باتت خارج المعادلة الفعلية للقرار الوطني الفلسطيني.

ومع تآكل شرعيتها الشعبية، وتآكل دورها السياسي، فإن أي مشروع لإعادة بناء البيت الفلسطيني قد لا يضع فتح على رأس الطاولة، بل ضمن مكونات عليها أن تُراجع نفسها وتعيد تعريف موقعها.

كما أن استمرارها في نفس السياسات العقيمة – من تنسيق أمني إلى خذلان سياسي – سيجعلها أقرب إلى الهامش التاريخي، بعدما كانت ذات يوم في طليعة الشعوب المقاومة للاحتلال.

ويبرز مراقبون أن حرب غزة كانت اختبارًا للكل الفلسطيني. من صمد فيها ونزف على خطوط النار نال شرعية الدم والكرامة، ومن تخلّى أو صمت أو ساوم فقد احترام شعبه.

وفي هذا الامتحان، فشلت فتح فشلًا ذريعًا في الحفاظ على موقعها، بل خسرت الكثير من رصيدها، وربما آخر أوراقها السياسية، في لحظة تاريخية تُعيد تعريف من يقف حقًا مع فلسطين، ومن يقف على رصيف حساباته الضيقة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى