أوهام قيادة السلطة الفلسطينية الضارة تخيم على المشهد في جنين
تتواصل في جنين الحملة الأمنية القمعية التي تشنها السلطة الفلسطينية والتي تهدد بزرع بذور الفتنة في الضفة الغربية المحتلة في وقت يخيم عليها أوهام القيادة الرسمية الضارة، ورهاناتها الخاطئة، واستمرارها بالتمسك بالتزامات أوسلو.
ويبرز مدير مركز مسارات للأبحاث والدراسات هاني المصري، أن رهانات السلطة لا تزال تقوم على التعاون التنسيق مع الاحتلال، في ظل تخلي الحكومات الإسرائيلية عن التزاماتها بأوسلو وقتل ما يسمى “عملية السلام”.
ويشير المصري إلى أن رهانات السلطة الفلسطينية على حالها على الرغم من الحصيلة المأساوية لخيار المفاوضات، واللهاث وراء تسوية في ظل ميزان قوى مختل لصالح الاحتلال، من خلال الاعتماد على التغيير الممكن في “إسرائيل” أو الولايات المتحدة أو المجتمع الدولي.
كما ينبه إلى تخطئة تصور إثبات السلطة أنها عنصر فاعل بتوفير الأمن والاستقرار والسلام لدولة الاحتلال، وراعيتها وداعمتها الولايات المتحدة الأميركية والنظام الإقليمي، وهذا سيجعلها تحفظ رأسها، ويمكن أن تحصل على دور، وربما دولة ترسم على خريطة الشرق الأوسط الجديد الجاري رسمه.
يرتبط توقيت الحملة الأمنية التي تنفذ عشية قرب التوصل إلى هدنة في قطاع غزة، ربما تقود إلى وقف حرب الإبادة الجماعية، مع تولي دونالد ترامب سدة البيت الأبيض، والوقوع في براثن أوهام جديدة بأن ترامب الجديد يختلف عن ترامب القديم.
وترى القيادة الفلسطينية أنها إذا اختارت التعامل والتكيف مع ترامب بدلًا من المقاطعة، مثلما فعلت سابقًا يمكن أن تتقي شره، أو يمكن أن يوافق على بقاء السلطة في الضفة، وعلى عودتها إلى غزة إذا أثبتت جدارتها، من خلال السيطرة على الضفة قبل استلام سيد الأبيض الجديد مهماته.
لذا، استمعنا إلى تصريحات من مسؤولين على أعلى المستويات في السلطة بأن الحملة الأمنية تستهدف الخارجين عن القانون تارة، والمعارضين للالتزام ببرنامج القيادة تارة أخرى، وهذا أمر لافت يستدعي التوقف عنده.
وتعتقد السلطة أنها ستكون مقبولة لدى ترامب الجديد إذا خفضت السقف الفلسطيني، ووضعت المطالب الفلسطينية المعدلة في سلة/ صفقة المفاوضات الأميركية السعودية الإسرائيلية، التي تهدف إلى التطبيع ودمج “إسرائيل” في المنطقة، مقابل مفاعل نووي سلمي متقدم، ومعاهدة دفاع مشترك، ودولة فلسطينية أو مسار سياسي يؤدي إلى دولة فلسطينية.
كما تخشى القيادة إذا لم تنجح السلطة في مساعيها لإقناع ترامب باستمرارها وقبولها لاعبًا، من استفراد حكومة اليمين المتطرف بالفلسطينيين قضية وأرضًا وشعبًا، وبالسلطة كذلك التي لا يراد لها أن تبقى؛ لأنها تجسد الهوية الوطنية الفلسطينية الواحدة، وبقاؤها يبقي باب إقامة الدولة الفلسطينية مفتوحًا، وهذا آخر ما تريده “إسرائيل”.
وبحسب المصري تخطئ القيادة والسلطة إذا تصورت أن انتصارها على المقاومين سيقويها في مفاوضاتها مع الأميركيين والإسرائيليين، أو سيحسن الصفقة السعودية، بل على العكس، فالقضاء على المقاومة يضيق هامش المناورة أمام الفلسطينيين ولا يبقي ما تخشاه تل أبيب وواشنطن.
كما سيعزز القضاء على المقاومة معسكر المطالبين داخل دولة الاحتلال بالتخلي عن السلطة وإقامة إدارات محلية بدلًا منها، أو الضغط باتجاه استكمال تحولها لتتحول إلى سلطة عميلة وكيلة لتنفيذ مخططات الاحتلال من دون دور سياسي ولا تمثيل للشعب الفلسطيني.
وأقصى ما يمكن أن تحصل عليه السلطة في المعطيات القائمة من دون وحدة فلسطينية فاعلة هو صفقة ترامب السابقة، مع احتمال أكبر أن تكون أسوأ. وللتذكير فإنها كانت تتضمن دولة ولكن من دون دسم، أي بلا مقومات الدول، حيث تفتقد إلى السيادة، فضلًا عن اقتطاع 30% من مساحة الضفة وضمها إلى “إسرائيل”.
الأولوية لترتيب البيت الفلسطيني
يشدد المصري على أن ترتيب البيت الفلسطيني هو الرد الواقعي والمسؤول على كل التحديات والمخاطر، الذي يمكن أن يحسن جوهريًا شروط الصفقة السعودية أو يمنع إتمامها، انطلاقًا من أن الرياض الآن أقوى ما كانت عليه في فترة ترامب الأولى، وعلاقاتها مع الصين وروسيا وبقية دول العالم أفضل بكثير مما كانت عليه، ما يعطيها هامشًا للقيام بدور في ظل التوازنات الدولية.
وهناك مؤشرات عن كون الرياض تطمح إلى القيام بدور ليس مجرد ملحق لإسرائيل في الشرق الأوسط الجديد، وبذلك لم تعد بنفس الدرجة بحاجة إلى الأسلحة والمفاعل النووي ومعاهدة الدفاع المشترك، لا سيما في ظل تحسّن علاقتها بإيران بشكل كبير، وتقليم مخالب طهران بعد سقوط نظام بشار الأسد وخروجها من سوريا.
فعلى الأقل هناك اجتهادات مختلفة في الرياض ومسؤولية الفلسطينيين أن يدعموا الاتجاه المؤيد لقيام دولة فلسطينية بوصف ذلك شرطًا للتطبيع، ولا يكتفي بمسار يؤدي إلى الدولة وهو لن يؤدي إليها أبدًا.
إذًا، الأولوية لترتيب البيت الفلسطيني، وتوحيد النظام السياسي وتفعيله، وبلورة قيادة واحدة وقرار واحد، والتمسك ببرنامج الحد الأدنى الذي يتسلح بالقانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة، ويتضمن في جوهره إنهاء الاحتلال وإنجاز الاستقلال الوطني.
ويحث المصري على تبني استراتيجية صمود تضمن بقاء الشعب وثباته على أرضه، وإبقاء قضيته حية، وتمسكه ببرنامج الحد الأدنى الوطني. وهذا الأمر في حد ذاته استراتيجية وطنية مناسبة جدًا في هذه المرحلة، كونها تهدف إلى منع الاحتلال من تحقيق أهدافه.
ويقول إنه في هذه المرحلة، من المناسب الاحتفاظ بما لدى الفلسطينيين من نقاط قوة ومكاسب انتظارًا لتغير الظروف، وهي ستتغير حتمًا، وما يقتضيه ذلك من التمسك بالحق في المقاومة، وانتقالها إلى العمل السري عبر مجموعات صغيرة منتشرة في عموم الأرض المحتلة.
ويشدد على أن دولة الاحتلال تمارس الإبادة والإرهاب وكل أنواع الجرائم، وتعمل على إقامة “إسرائيل الكبرى”، ولا توافق على التسويات والحلول الوسط، وبذلك لا بديل من المقاومة بكل أشكالها.
لكن المقاومة حتى تحقق أهدافها يجب أن تستند إلى إستراتيجية وطنية مسلحة بتوافق وطني، يشمل توقيتها وشكلها وأهدافها، وتستند إلى عدالة القضية الفلسطينية وتفوقها الأخلاقي.
ويختم المصري محذرا من التطورات الوخيمة في جنين “ليس هناك أسوأ من الاقتتال الذي يفتح طريق الحرب الأهلية التي إذا اندلعت لن تبقي ولا تذر”.
ويتابع “ينبغي وأد الفتنة الداخلية في مهدها، وضروري القيام بذلك قبل فوات الأوان، وذلك من خلال وقف الحملة الأمنية، وسحب المظاهر المسلحة ووقف الحصار، وإطلاق حوار شامل لا يتناول جنين فقط، وإنما الوضع الفلسطيني الراهن كله، وكيفية مواجهة التحديات والمخاطر وتوظيف الفرص التي هي متاحة وأقرب مما يظن الكثيرون”.