مجموعة الأزمات الدولية: فشل برنامج المساعدات الإسرائيلي في غزة
بعد دمجه الغذاء في الاستراتيجية العسكرية

أكدت مجموعة الأزمات الدولية على فشل برنامج المساعدات الإسرائيلي المدعوم أمريكيًا في غزة بعد دمجه الغذاء في الاستراتيجية العسكرية.
وأبرزت المجموعة الدولية في تحليل على موقعها الالكتروني، أنه منذ بدء حرب الإبادة الجماعية قبل أكثر من 20 شهرا، قلّصت دولة الاحتلال المساعدات، وخفّفت القيود عند ظهور تحذيرات من المجاعة، وشدّدتها مع تراجع الاهتمام. والآن، في خضمّ حملة توزيع دموية، تُهدّد الآلية الجديدة بترسيخ المجاعة بدلًا من إنهائها.
وأشارت المجموعة إلى أنه وسط مساعٍ دبلوماسية متعثّرة لوقف إطلاق النار في غزة، تحوّل توزيع الغذاء إلى جبهة حرب جديدة بفعل برنامج مساعدات إسرائيلي-أمريكي مشترك.
وقالت إن هذا البرنامج الذي تم تسويقه كبديل إنساني لتجاوز الأمم المتحدة ووكالات الإغاثة العاملة منذ سنوات في القطاع، تسبّب فعليًا في تفاقم المأساة.
ومنذ لحظة الإعلان عن “مؤسسة غزة الإنسانية” (GHF) المسجلة في الولايات المتحدة، وخلال أيام قليلة من بدء عملياتها، تحوّلت المساعدات الغذائية إلى فوضى دموية.
المدير التنفيذي للمؤسسة استقال قبل توزيع أي وجبة واحدة، محذرًا من انتهاكات صارخة للمبادئ الإنسانية. وعلى الأرض، قُتل العشرات من الفلسطينيين خلال محاولاتهم الوصول إلى “مراكز التوزيع المحصّنة”، كثير منهم على يد الجيش الإسرائيلي، وأصيب آخرون بجروح بالغة.
استراتيجية التجويع المتعمّد
منذ بدء الهجوم الإسرائيلي على غزة في أكتوبر 2023، عقب عملية طوفان الأقصى، فرضت إسرائيل قيودًا صارمة على دخول المساعدات.
وقد تكررت ثلاث موجات من الحصار شبه الكامل على قطاع غزة خلال تسعين يومًا: مرتان في الشمال، ومرة على القطاع بأكمله. وعند إطلاق تحذيرات من المجاعة، كما حدث في مارس ونوفمبر 2024، كانت إسرائيل تخفف القيود مؤقتًا، لتعيد تشديدها لاحقًا مع تراجع الضغط الدولي.
في مايو 2025، وبعد حصار استمر 11 أسبوعًا، أعادت إسرائيل فتح المعابر جزئيًا، دون رفع معظم القيود. ووفقًا للأنماط السابقة، من المرجح أن يُعاد فرض الحصار الكامل أو الجزئي فور انخفاض مستوى الاهتمام العالمي.
هذه الدورة الوحشية، التي تتلاعب بمرونة الاستجابة الإنسانية، تتجاهل الفارق بين “المجاعة” كمصطلح إحصائي وبين “الموت جوعًا” كواقع يومي.
فبينما تتطلب المجاعة معدلات وفيات وسوء تغذية حادة قابلة للقياس، يبدأ انهيار الجسد الإنساني قبل بلوغ هذه العتبة بكثير. ومع أن هناك جدلًا حول ما إذا كانت غزة تجاوزت هذه الحدود، فإن سكانها لا يملكون ترف الانتظار.
وفقًا لمقياس “التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي” (IPC)، فإن 2.2 مليون فلسطيني في غزة يعانون من انعدام أمن غذائي حاد، أكثر من نصفهم في المرحلة الرابعة (الطوارئ)، ونحو الربع في المرحلة الخامسة (الكارثة)، حيث يختفي الغذاء وتنهار الحياة الاجتماعية. كل دورة من الحصار تترك آثارًا لا تُمحى على الأفراد والمجتمعات، وتضر بالأطفال والنساء والأجيال القادمة بشكل خاص.
دمج المساعدات في الحملة العسكرية
تمثل آلية GHF تطورًا خطيرًا، إذ تم دمج توزيع الغذاء بشكل مباشر في العملية العسكرية الإسرائيلية “عربات جدعون”، التي تهدف إلى تفريغ شمال غزة واحتجاز السكان في “مناطق معقمة” تحت السيطرة الإسرائيلية في الجنوب.
بينما تتحدث المؤسسة عن مواقع في الشمال، تُناقض الاستراتيجية العسكرية الإسرائيلية هذه المزاعم. في واقع الأمر، يتحوّل توزيع الحصص الغذائية إلى وسيلة تجسس من خلال نقاط التفتيش البيومترية، وجمع البيانات عن المدنيين الجوعى الباحثين عن الطعام.
البرنامج يقترح تقديم 1750 سعرة حرارية للفرد يوميًا، وهو أقل بكثير من الحد الأدنى المعتمد دوليًا (2100)، وأقل حتى من ما كانت إسرائيل نفسها قد اعتبرته الحد الأدنى الضروري عام 2011 (2279 سعرة).
والأسوأ أن على الفلسطينيين قطع عشرات الكيلومترات للوصول إلى أربعة مواقع “آمنة”، غالبًا وسط مناطق اشتباك. وما يُوزع هو مواد جافة فقط، دون مياه أو وقود للطهي، ودون رعاية صحية أو مأوى.
تزعم مؤسسة GHF أنها ستوزع 300 مليون وجبة خلال 90 يومًا، لكن ذلك لا يعني أكثر من 1.6 وجبة للفرد، وهي بالكاد تكفي للبقاء على قيد الحياة.
بذلك، تتحول المساعدات من أداة إنقاذ إلى آلية لإدامة المعاناة، ما يهيئ فعليًا لحدوث مجاعة واسعة النطاق إذا فشل البرنامج في تلبية الحد الأدنى من الاحتياجات.
الغذاء كسلاح حرب
ليست هذه المرة الأولى التي تحاول فيها إسرائيل التحكم في السعرات الحرارية التي تصل إلى غزة. ففي عام 2011، كشفت وثيقة إسرائيلية عن تحديد استهلاك القطاع الغذائي بدقة لمنع سوء التغذية دون تجاوز عتبة المجاعة.
اليوم، تُعيد دولة الاحتلال تنفيذ هذه السياسة عبر مؤسسة GHF، ولكن في ظل ظروف أسوأ بكثير واحتياجات أعلى بعد ثمانية أشهر من الحرب.
البرنامج الجديد لا يعيد فقط هيكلة شبكة توزيع المساعدات؛ بل يستبدل أكثر من 400 نقطة إغاثة بأربعة مراكز خاضعة لرقابة أمنية مشددة. هذه العملية تُحوّل الاحتياجات الإنسانية إلى عملية تصفية جسدية وجمع معلومات، حيث يواجه الجياع جحيمًا للوصول إلى طعام غير كافٍ ولا مغذٍ.
الهدف: منع صور المجاعة… لا المجاعة نفسها
أحد الأهداف الضمنية للبرنامج هو تفادي صور المجاعة التي قد تثير غضبًا دوليًا يهدد الدعم الأمريكي لإسرائيل. فقد صرح رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أن “(إسرائيل) يجب أن تقدم القليل فقط من المساعدات لتجنّب صور الجوع في واشنطن”. هذه المقاربة لا تنكر فقط المجاعة، بل تُقنّنها سياسيًا.
في يناير، بالغ السفير الأمريكي السابق جاك لو حين قال إن غزة لم تنزلق إلى المجاعة. وفي ديسمبر، أجبرت إدارة بايدن شبكة “FEWS NET” على سحب تحذيرها من المجاعة خلال 24 ساعة، رغم أن التحليل كان ممولًا من الحكومة الأمريكية نفسها.
بعد ذلك بخمسة أشهر، أكد IPC النتائج ذاتها، لكن الضرر كان قد وقع، واعتُمد إنكار المجاعة كسياسة.
تصريحات صريحة: تجويع “عدو بلا طعام”
رغم أن المسؤولين الإسرائيليين ينفون علنًا نية استخدام التجويع كسلاح، فإن التصريحات من داخل الحكومة تكشف النوايا الحقيقية. وزير المالية بتسلئيل سموتريتش اعتبر “تجويع الغزيين حتى الموت” أمرًا “عادلًا وأخلاقيًا” ما دام هناك أسرى.
وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير صرّح بأن المساعدات الوحيدة المقبولة هي التي تساعد على “الهجرة الطوعية”. في رأيهم، الجوع ليس أداة ضغط، بل شرط لفرض الاستسلام.
المجاعة: ليست أثرًا جانبيًا بل أداة استراتيجية
ما يجري في غزة ليس مجرّد تقصير إنساني أو فشل لوجستي، بل سياسة ممنهجة تُدرج المجاعة كوسيلة من وسائل الحرب. آلية المساعدات الجديدة لا تضمن البقاء، بل تكرّس المعاناة وتعيد تشكيل دور النظام الإنساني الدولي.
لم تعد تحذيرات المجاعة تُطلق لمنع الكارثة، بل لضبط مستوى الكارثة كي لا تُحدث ضجيجًا دوليًا أكثر من اللازم.
وختمت مجموعة الأزمات الدولية بأن هذا الواقع يكشف أن الحصار لم يعد مجرد حصار، بل صار هندسة دقيقة للجوع، يُقاس فيها الألم بالصور المتسربة، لا بالأجساد المنهكة على الأرض.