الاحتلال يكرس “آلية الموت” تحت غطاء توزيع المساعدات في غزة

في فجر الأول من يونيو/حزيران 2025، وقعت واحدة من أكثر المجازر دموية ووضوحًا لنية الاحتلال الإسرائيلي في استخدام المساعدات الإنسانية كسلاح للإذلال والموت، لا للنجاة.
فبينما كان آلاف الفلسطينيين يتجمهرون في حي تل السلطان برفح الجنوبية، تنفيذًا لتعليمات مباشرة من الجيش الإسرائيلي والمنظمة الأميركية التي تشرف على عمليات توزيع المساعدات، تحوّلت ساحة انتظار المساعدات إلى مسرحٍ للرعب، أُطلق فيه الرصاص على الجوعى، وقُصفت الحشود بقذائف الدبابات والطائرات المسيّرة، في مشهد يختزل بوضوح كيف أن المجاعة في غزة لم تكن مجرد كارثة إنسانية، بل أداة سياسية تم تحويلها إلى مصيدة موت.
المجاعة كسلاح: من الحصار إلى الرصاص
لم تبدأ المجزرة الأخيرة في تل السلطان بمجرد إطلاق النار فجر الأحد، بل هي نتيجة متراكمة لآلية تجويع مُمنهجة تبنّاها الاحتلال منذ بداية الحرب على غزة في أكتوبر/تشرين الأول 2023، ثم عزّزها بتحكم مباشر بآلية توزيع المساعدات.
منذ ذلك الوقت، يُمنع الغذاء والماء والدواء من الوصول بحرية إلى القطاع، في انتهاك واضح للقانون الدولي الإنساني، وتُحاصر قوافل الإغاثة وتُقيَّد إلى الحد الذي جعل غزة تتحوّل إلى “المكان الأكثر جوعًا على وجه الأرض”، وفقًا لتوصيف الأمم المتحدة قبل أيام فقط من المجزرة.
الجديد منذ منتصف مايو الماضي هو فرض الاحتلال ما يسمى “آلية توزيع المساعدات” في المناطق الجنوبية من غزة، والتي تسوّقها حكومة إسرائيل ومنظمة أميركية شريكة على أنها طريقة “آمنة ومنظمة” لتقديم المساعدات.
لكن التجربة الواقعية على الأرض أثبتت العكس تمامًا: إنها آلية مميتة، وعشوائية، وغير إنسانية، تقوم على تحويل نقاط التوزيع إلى ساحات مفتوحة لقتل المدنيين أو إذلالهم بالجوع والتدافع والانهيار الصحي.
كيف تعمل “آلية الموت”؟
آلية توزيع المساعدات الحالية تقوم على استدعاء المدنيين، رجالًا ونساءً وأطفالًا، للانتظار في مناطق خالية تمامًا من الحماية، غالبًا عند نقاط أقامها الاحتلال قرب قواعده العسكرية. يُطلب من الفلسطينيين القدوم قبل الفجر، وقطع مسافات قد تتجاوز 20 كيلومترًا سيرًا على الأقدام ذهابًا وإيابًا، فقط من أجل الحصول على طرد غذائي لا يكفي يومين.
ثم، وبمجرد احتشاد عشرات الآلاف في تلك النقاط، تبدأ مراحل التصفية الجماعية: تُطلق طائرات مسيّرة من نوع “كوادكابتر” النار من على ارتفاع منخفض، تتبعها قذائف دبابات، وتُستخدم القنابل الدخانية لتفريق الحشود بطريقة تسبّب التدافع والموت خنقًا أو سحقًا.
وفي مذبحة تل السلطان تحديدًا، أفادت شهادات متقاطعة بأن قوات الاحتلال، إلى جانب عناصر المنظمة الأميركية، تعمّدوا توجيه المدنيين للبقاء في موقع معين حتى الساعة السادسة صباحًا، قبل أن تبدأ القوات بإطلاق النار عليهم بصورة مفاجئة ومن عدّة محاور.
آلية مجاعة لا تقدم الغذاء
لا تتجاوز نسبة من يتمكن من الحصول على الطرد الغذائي في كل مرة 5% من مجموع الحشود، بحسب تقديرات منظمات حقوقية عاملة في الميدان. وهذا ما يجعل هذه الآلية ليست فقط غير فعّالة، بل انتقائية، تؤدي إلى حصول الأقوياء والمغامرين فقط على المساعدات، بينما يُقصى كبار السن، النساء، المرضى وذوو الاحتياجات الخاصة.
بل إن الطرود نفسها تُوزّع بكميات محدودة وغير كافية، مما يخلق نوعًا من “سوق البقاء” يحكمه العنف، حيث يمكن لبعض الأفراد الحصول على أكثر من طرد، فيما لا يحصل الأغلبية على شيء، ليعودوا إلى بيوتهم، أو خيامهم إن صح التعبير، بلا غذاء ولا ماء، بل مصابين أو مثقلين بذكرى الرعب.
محاولة تبييض جرائم الاحتلال عبر “المساعدات”
الآلية الحالية ليست فقط فاشلة إنسانيًا، بل وظيفتها الحقيقية سياسية ودعائية. يسعى الاحتلال، عبر التنسيق مع أطراف أميركية، إلى تصوير نفسه كمقدّم للمساعدات، في محاولة لتبرئة صورته أمام المجتمع الدولي بعد تزايد الاتهامات باستخدامه التجويع كأداة حرب.
لكن هذه الآلية، كما أكدت مؤسسات حقوقية تتحوّل فعليًا إلى أداة قتل جماعي، توظّف المجاعة لخداع المدنيين وجذبهم إلى مناطق مفتوحة لا تتوفر فيها أدنى معايير السلامة أو الكرامة الإنسانية، ثم يُستهدفون تحت ذرائع أمنية زائفة.
وهنا لا يمكن تجاهل مسؤولية الأطراف الدولية، وعلى رأسها الولايات المتحدة، التي لا تكتفي بتقديم الغطاء السياسي لإسرائيل، بل تشارك عمليًا في إدارة آلية المساعدات، ما يجعلها طرفًا مباشرًا في الجريمة، وليس مجرد متفرج أو وسيط إغاثي.
بين آليتين فاسدتين: النهب أو القتل
ما يضاعف مأساة سكان غزة هو أن “آلية القتل الإنساني” الجديدة لم تكن بديلًا حقيقيًا عن السابقة التي كانت تعتمد على توزيع المساعدات عبر تجار أو وسطاء محليين، والتي كانت بدورها عرضة للنهب والاحتكار والبيع بأسعار خيالية.
لكن المقارنة بين آليتين فاسدتين لا تبرّر استمرار أي منهما. فبين أن يُجبر المواطن على شراء الطحين بأسعار السوق السوداء، أو أن يُقتل في طابور المساعدات، تبدو خيارات الغزيين محصورة بين الموت البطيء أو الموت الفوري. وكلا الخيارين تجسيد لانعدام الحد الأدنى من الضمانات الإنسانية والكرامة.
دعوات لوقف الآلية… ومحاسبة المجرمين
على خلفية مذبحة تل السلطان، تصاعدت الأصوات المطالبة بوقف العمل الفوري بهذه الآلية. وطالبت منظمات فلسطينية ودولية، بفتح تحقيق دولي مستقل في جريمة استهداف الجوعى، ومحاسبة المسؤولين عنها.
كما دعت جهات أممية إلى العودة الفورية لتوزيع المساعدات الإنسانية من خلال منظمات محايدة، وفي نقاط آمنة داخل القطاع، وتحت إشراف مراقبين دوليين، لضمان ألا تتحوّل الطرود الغذائية إلى أدوات قمع وقتل.
ويؤكد ناشطون دوليون أن المأساة الجارية في غزة تجاوزت حدود المجاعة والكوارث الطبيعية. نحن أمام حالة متعمّدة من التجويع والإذلال والمجازر، تُدار بآليات عسكرية دعائية تسوّق نفسها على أنها “إنسانية”. وآلية توزيع المساعدات، بصيغتها الحالية، ليست سوى امتداد للحرب الشاملة على سكان غزة، بوسائل متعدّدة: القصف، الحصار، التجويع، والآن “المساعدات القاتلة”.
في هذا السياق، لم تعد المطالبة بزيادة المساعدات كافية، بل يجب المطالبة بتفكيك هذه الآلية بالكامل، وتحويل إدارة العمل الإنساني في غزة إلى هيئة أممية نزيهة، توقف استخدام الغذاء كسلاح، وتعيد للغذاء معناه البسيط: أن يبقي الإنسان حيًّا، لا أن يجرّه إلى حتفه.